نوّابهم.. كأنهم هبطوا بالمظلات.. لا حِلم سابق.. ولا اجتهاد لاحق..
قال لي والدي -عليه رحمة الله- ذات مساءٍ.. وهو يقلب أوراق الجرائد العتيقة.. إن في بلادٍ بعيدة لا تظهر على الخرائط.. اسمها الواق واق.. كان لهم برلمانٌ غريب.. يقال إنه يمثل الناس.. لكنه غالباً ما يمثل عليهم..
ضحكت حينها.. وظننتها إحدى قصصه الساخرة.. لكنه قالها بجدية رجلٍ ذاق السياسة.. وعاش تحت ظلال الحِكمة.. ثم أضاف "هؤلاء لا يعرفون من السياسة إلا اسمها.. وقد سقط أغلبهم من السماء إلى مقاعد البرلمان.. بلا تدرّج ولا تأهيل.. ومنهم مَن أمضى حياته العملية مأموراً.. لا آمراً.. ولا صاحب قرار.. كأنما الريح ألقت بهم هناك.. فلا فكر.. ولا تجربة.. ولا حتى فهم لمعنى.. أن تكون ممثلًا عن الناس.. لا عن نفسك..
ومع الأيام.. صرت أتذكر ما سمعته عن برلمان الواق واق.. وبدأت أفهم ما قصده والدي.. فالمشهد كان غريباً حد الإرباك.. فكلما تذكرت حديث والدي عن أحدهم.. وهو يتحدث تحت القبة.. تساءلت.. كيف وصل هذا الرجل.. أو تلك السيدة إلى هناك؟!.. مَن منحهم هذا التفويض الوطني؟!.. أكانوا سياسيين قبل البرلمان؟!.. أمارسوا الديمقراطية يوماً؟!..
فهم لم يأتوا من الأحزاب.. ولم يتدرجوا في مؤسسات الفكر.. أو القرار.. ولم يعرفوا طعم النقاش الحر.. ولا ألم المواجهة تحت سقف القانون.. بل تسللوا فجأة.. وسقطوا في قلب البرلمان.. كما تسقط الأوراق اليابسة على وجه الماء.. بلا أثر.. سوى الضجيج..
وهكذا.. تجلّت المراهقة السياسية في برلمان الواق واق.. بكل مظاهرها الصارخة.. تجد بعضهم.. لا يعرف ما له وما عليه.. لا يفرّق بين المداخلة الإعلامية.. والسؤال النيابي.. ولا يدرك.. أن ما بين يديه سُلطة لا تُستعرض.. بل تُمارس بعقل ومسؤولية..
فهناك.. في تلك البلاد البعيدة.. يُهاجم بعض النواب لا لشيء.. إلا ليستعرضوا أمام الكاميرات.. ويؤيدون لا لقناعة.. بل لمنفعة.. يظنون أن السياسة تُدار بالصوت العالي.. لا بالحوار.. وأن النائب القوي.. هو من يُرعب.. لا من يُقنع.. ومن يُلوّح. لا من يُشرّع..
وكنت أتساءل في داخلي.. وأنا أتذكر ما كان يجري تحت قبة برلمان الواق واق.. هل جميع أعضائه قد أتوا من خلفيات سياسية؟!.. هل سبق لأحدهم أن مارس ديمقراطية حقيقية في مؤسسة ما؟!.. أم أن أغلبهم.. لم يكن في حياته يوماً طرفاً في قرار جماعي.. ولا طرفاً في نقاش وطني؟!..
وكيف.. بالله.. يصيغ هؤلاء القوانين.. وهم لم يقرأوا حتى النظام الداخلي للمجلس؟!.. أليس في بلاد الواق واق.. يفترض أن تحت القبة يجلس الموالي والمعارض.. لا ليشتبكوا.. بل ليعملوا معاً من أجل مصلحة الوطن؟!.. أليس كلهم سواسية أمام القانون.. مهما اختلفت لهجتهم أو خلفيتهم؟!.. أم أن المجلس هو حكرٌ للموالين على حد زعم أحدهم؟!.. ولا مكان للمعارضة الحقة؟!..
المراهقة السياسية في تلك البلاد.. لم تكن تهمة.. بل كانت وصفاً دقيقاً لحالةٍ عامة.. حين يقفز أحدهم إلى موقع القرار دون مؤهلات.. فيرتجل الموقف بلا وعي.. ويتخذ القرار بلا حجة.. ويهاجم الآخر.. لأنه الآخر فقط.. لا لأن لديه خطأ يستحق التصويب..
وهكذا فقد البرلمان هناك هيبته.. أمام الناس.. وتحول المشهد من منصة وطنية.. إلى عرضٍ شعبوي.. ومن مقام مسؤولية.. إلى مسرح صراخ.. فصار السياسي نجم ترند.. لا رجل دولة.. وضاعت الحدود بين المعارضة الحقيقية.. والمزاودة المسرحية..
وكل ذلك.. لأنهم في بلاد الواق واق.. لم يعيدوا تعريف السياسة في وجدانهم.. لم يروها محراباً للمسؤولية.. بل منصة للشهرة.. ولم يفهموا أن العمل العام يحتاج عقلاً.. لا مجرد طموح.. ويحتاج تأهيلاً.. لا تصفيقاً فارغاً..
فأصبح البرلمان هناك.. أشبه بمرآة مكسورة.. تعكس وجوهاً كثيرة.. دون أن تظهر وجه الوطن..
وما أكثر السياسيين في بلاد الواق واق.. وما أندر الناضجين منهم..
فسقطوا من أعين الناس بشكل مُهين..
واختتم والدي -عليه رحمة الله- بقوله.. قلت لك يا بُني.. في بلاد الواق واق.. السياسة تُمارس بالعاطفة.. لا بالعقل.. فإياك أن تصدق مَن ظن أن الصراخ يعني قوة.. أو أن التهجم يعني رجولة.. فهذه هي المراهقة السياسية.. بكل ما في الكلمة من معنى..