من مستخدم إلى صانع .. بناء مواطنة رقمية واعية
د. أميرة يوسف ظاهر
09-05-2025 04:14 PM
في ظل التحولات الرقمية المتسارعة لم تعد التقنية خيارا إضافيا في التعليم، بل أصبحت عنصرا مركزيا يعيد تشكيل الفضاء الجامعي وأدوات التعلم، بل ومفاهيم الجهد والمعرفة ذاتها، غير أن هذا التحول برغم فرصه الهائلة، يطرح سؤالا وجوديا: من يقود من؟ الطالب أم الخوارزمية؟
لم يعد يكفي أن نعيد ترتيب ما نتعلمه، وأصبح من الضرورة أن نعيد توجيه: لماذا؟ ولأجل من نتعلم؟
فالتعليم لم يعد مقصورا على الحضور الجسدي في القاعات، وإنما امتد ليشمل الحضور القيمي في فضاء رقمي مفتوح يتحرك فيه الطالب بين منصات وأدوات، دون بوصلة أخلاقية تحميه من أن يتحول إلى مستهلك للمعرفة بدلا من أن يكون صانعا لها.
والخطورة لا تكمن في تسارع التقنية ولكن في تراجعنا عن مواكبتها بمنظومات فكرية ونقدية قادرة على احتضانها وتوجيهها، حين يستبدل الجهد العقلي بخوارزمية تسرق من الطالب أثمن ما يمتلكه: القدرة على المحاولة، والتعلم من الخطأ، وتذوق متعة الاكتشاف الذاتي. فالمسألة ليست فقط في نزاهة أكاديمية، ولكن في هوية إنسانية تنهار أمام إغراءات السرعة وسهولة الجواب الجاهز.
لهذا فإن تأسيس (مواطنة رقمية واعية) يجب أن يتجاوز الإجراءات واللوائح إلى منظومة تربوية تبدأ من الطفولة، وترسخ في الإنسان وعيا أخلاقيا بأن كل أداة تحمل بداخلها نية، وكل معلومة تنتج بتأثير ما، فالتربية على التكنولوجيا لا يجب أن تكون تدريبا على الاستخدام، بل تنشئة على المسؤولية فنسأل: لمن يعمل هذا النموذج؟ ومن يملك خوارزميته؟ وعلى حساب من تنتج نتائجه؟
وتعد الأسرة والمدرسة الركيزتين الأساسيتين في هذه المعادلة؛ فالمواطنة الرقمية ليست مهارة تدرس في مادة مستقلة، وإنما ثقافة تتغلغل في تفاصيل التربية اليومية، بدءا من طريقة استخدام الهاتف المحمول إلى كيفية التحقق من صحة معلومة، أو تقييم منشور عبر وسائل التواصل، نحن بحاجة إلى إعادة تشكيل سلوكنا الرقمي كأسرة لا فقط تثقيف الطلبة كمستخدمين.
وإذا كانت الجامعات قد اعتادت أن تكون مراكز بحث أكاديمي، فإن دورها اليوم يجب أن يتحول إلى مختبرات أخلاقية تشرك الطلبة في صياغة سياسات استخدام الذكاء الاصطناعي، وتقود حملات توعية في الأحياء والمدارس، وتبني شراكات مع المجتمع المدني، تعيد للجامعة موقعها التنويري كقلب نابض للمجتمع لا مجرد مزود للمؤهلات.
وما يمنح هذا التصور بعده الريادي الحقيقي هو تمكين الطلبة من أدوات الإنتاج التقني، تخيل أن يدرس الذكاء الاصطناعي باللغة العربية وبأمثلة من واقعنا، وأن تبنى النماذج الحاسوبية بأيدي طلبة من تخصصات مختلفة يعملون سويا لحل مشكلات مجتمعية كالتسرب المدرسي مثلا أو العنف الأسري أو يعملون على رقمنة التراث وتحويله إلى موارد تعليمية تفاعلية، وبمثل هذا تتحول التقنية من منتج مستورد إلى ممارسة محلية تعكس ثقافتنا وتلبي احتياجاتنا.
ولن يتحقق ذلك دون دور وطني داعم؛ فالمواطنة الرقمية ليست مسؤولية فردية فحسب، وإنما مشروع وطني يحتاج إلى سياسات تعليمية متقدمة، وتشريعات متزنة وتمويل لمشاريع رقمية يقودها الشباب، كما نحتاج إلى منصات عربية آمنة وإلى محتوى محلي موثوق، وإلى ربط البحث العلمي بحاجات المجتمع الحقيقية.
إن ما نحتاجه ليس فقط قوانين تنظم استخدام الأدوات الذكية، بل خيالا تربويا قادرا على تحويل الذكاء الاصطناعي من خطر محتمل إلى فرصة حضارية، وخيالا يرى الطالب فاعلا أخلاقيا: يسائل ويبتكر ويقود. وهكذا فقط نستحق أن ندافع عن التعليم لا كحق اجتماعي فحسب بل كمشروع لبناء الإنسان.