كثيراً ما تُذكرني هذه المقولة.. بحركات ذلك العصفور الصغير.. الذي لا يكاد يستقر على غصن.. حتى يهمّ إلى آخر.. ثم لا يلبث أن ينقض على بُقعة في الأرض.. يظن أن فيها حَباً.. أو دودة.. فيعود خالي المنقار.. ويركض نحو أخرى.. ثم أخرى.. حتى إذا ما أتعبه اللهاث.. وقف بُرهةً.. ينظر إلى سربٍ بعيد.. قد امتلأت مناقيرهم بما قسم الله.. فيحسدهم.. ثم يعاود القفز في كل اتجاه.. دون خطةٍ.. ولا وِجهة.. فلا صاد.. ولا ارتاح.. ولا تعلّم من فشله المتكرر شيئا..
وهكذا يُشبه حالهم دوّامةً لا تهدأ.. يدورون فيها بين الطُرق.. فلا يرسون على شاطئ.. وإن كانوا قد بدأوا السير في دربٍ مبارك.. فإنهم ما إن يروا مَن حولهم قد سلكوا مسلكاً آخر.. وحققوا فيه نجاحاً.. حتى انقلبوا إليه.. متناسين ما كان بين أيديهم من فرصٍ واعدة.. فتراهم يخوضون كل تجربة.. يظنون أن فيها وصفة سريعة للنجاح.. دون أن يدركوا.. أن النجاح لم يكن في الطريق ذاته.. بل في الثبات عليه.. والبذل فيه.. وتقبّل مراحله..
خذ مثلاً.. مَن اندفع لشراء كتبٍ قرأها شخص ناجح.. وبدأ يلتهمها صفحة بعد صفحة.. ظاناً أن تقليبه ذات الصفحات.. سيحمله نحو ما حملت ذلك الشخص إليه.. ولا يعلم.. أن القراءة كانت جزءاً من بناءٍ طويل.. بدأ منذ سنوات.. تراكم فيه الجهد.. والنضج.. والخبرة.. وليس مجرد كلماتٍ على ورق.. فالكتب لا تصنع النجاح بذاتها.. بل تفعل ذلك في يد مَن يعرف كيف يحاورها.. ويغزل منها درباً متينا..
ومِثله مَن سمع.. أن معلماً بدأ بإعطاء دروسٍ عبر المنصات الإلكترونية.. وحقق انتشاراً واسعاً بين الطلاب.. فظن أن الأمر.. لا يتعدى الجلوس أمام الكاميرا.. وشرح الدروس.. فأنشأ حساباته على المنصات.. وبدأ يسجل.. لكنه سرعان ما اصطدم بحقيقةٍ.. أن ما فعله ذلك المعلم الناجح.. لم يكن وليد الصدفة.. بل ثمرة أسلوب مشوّق.. وخبرة تربوية.. وطريقة واعية في إدارة الكاميرا.. والتواصل مع الطالب عن بعد.. ومهارات في الإلقاء.. والإعداد.. والمتابعة.. لا تُكتسب بين ليلة وضحاها.. فالمحتوى الرقمي التعليمي.. ليس مجرد نسخة مصورة من الحصة الصفية.. بل هو فنّ قائم بحد ذاته..
هذه الظاهرة.. التي يمكن تسميتها بـ"وهم التقليد السريع".. أو كما تصفها بعض النظريات الحديثة بـ"متلازمة السعي وراء النتائج.. دون المرور بالمراحل".. تجد جذورها في النفس البشرية التي تتوق للنتيجة.. لكنها تضيق بالمشوار.. ولهذا قال الفلاسفة قديماً.. أن مَن لا يتقن الصبر على الطريق.. لن يعرف طعم الوصول..
وهناك أيضاً ما يعرف في علم النفس السلوكي بـ"التشتت السلوكي".. وهو نوع من الاندفاع وراء المثيرات الجديدة.. دون تقييم حقيقي للفائدة.. فيقع صاحبه في دوامة البدء الدائم دون إتمام.. فيبني ولا يتمم.. ويجمع ولا ينتفع..
الناصح لنفسه.. لا ينخدع بالبَريق.. بل ينظر في داخله أولاً.. ما الذي أريده فعلاً؟!.. ما المهارة التي أملك؟!.. ما الفكرة التي أؤمن بها؟!.. ثم يمضي في الطريق الذي رسمه لنفسه.. غير آبه بمن سبق.. أو تأخر.. فلكل واحدٍ دربه وميدانه.. والنجاح الحقيقي.. ليس أن تقلّد أحداً.. وتصل لما وصل.. بل أن تبني بصمتك في طريقك أنت..
فكثير النط.. قليل الصيد.. لأن القفز المتكرر.. يستهلك الوقت والطاقة.. ولا يُورث.. إلا التعب والخذلان.. أما مَن ثبت واستثمر في طريقه.. ولو ببطء.. فسيصيب من الصيد.. ما لم يكن في حسبانه..
فاختر طريقك.. واثبت فيه.. ولا تجعلك خطوات الآخرين.. تزيغ عن الدرب الذي يصل بك إلى نفسك أولاً.. ثم إلى النجاح الحقيقي..