حدثني صديقي ذات مساء.. وكان يتكلم بنبرة يختلط فيها التعجّب بالأسى.. عن جارتهم الطيّبة.. التي كانت تسكن بيتاً قديماً متآكل الجدران.. وكانت رغم كبر سنها.. تطرق أبواب نساء الحي من حين لآخر.. لا تسأل لنفسها شيئاً.. بل تذكّرهم بأبناء أخيها المتوفى.. ثلاثة أيتام وأمهم.. وتسألهم ما جاد الله به من مالٍ.. أو طعامٍ.. أو ثياب.. كانت كأنها مندوبةُ رحمةٍ.. تمشي على قدمين.. وصديقي يقول إنه طالما سمع أمه تدعو لتلك الجارة.. وتقول "لو ما إلها من الخير غير هالأيتام اللي ما نسيتهم.. لكفاها".. وكان أقارب الجارة.. لا يُفَوّتون فرصة.. إلا ويجمعون لهم من هنا وهناك.. وكلما سأل أحدهم عن عائلة محتاجة.. دلّوه على أولئك الأيتام.. أو أخذوا المال وأوصلوه باسمهم.
ماتت الجارة الطيبة.. لكن أهل الخير في الحي.. ما قطعوا يدهم عن أولئك الصغار.. فجمعت النسوة ما استطعن.. وسلموه لصاحبي ليذهب ويوصلها لتلك العائلة.. وبعد عناء.. وصل الى هناك.. إلى حيّ جديد.. وفي شارعٍ نظيف.. مرصوف بالحجر.. ومزدان بالفلّ.. وقف مذهولاً أمام عمارة شامخة.. كأنها فيلا من مجلّات العقارات.. ثلاثة طوابق.. سيارات فاخرة في المدخل.. وسأل الناس هناك.. فعلم أنهم أصحاب شركة.. وأن الأيتام الصغار.. صاروا رجالاً.. ومن أهل المال.. لكنه سمع منهم شيئاً.. أغرب من الواجهة ذاتها.. قالوا له "مع ذلك.. كل فترة بيجينا ناس بيسألوا عنهم.. وبيقولوا بدهم يساعدوهم".
ضحك صاحبي بمرارة وقال.. "معقول؟!.. بعد كل هاللي عندهم؟".. لكنه تذكّر قول أبيه صاحب الحلال.. عن "الجدي اللكوع".
و"اللكوع" باللهجة السلطية تكون بلفظ الكاف.. كما تلفظ "CH" بالإنجليزية.. ذاك الجدي إذا ماتت أمه.. جعل صاحب القطيع يدُور به بين إناث الغنم.. ليرضع من هذا الضرع وذاك.. وحين يشبع.. ويأخذ فوق حاجته.. يظل يملأ السماء بصياحٍ مدّعٍ.. كأنه لم يذق قطرةً واحدة.. فيكسب الحنان من الجميع.. ويجعلهم يظنّونه مظلوماً.. بينما هو الشبعان المتخوم.
وفي زماننا هذا.. كثر "اللكعان".. يتباكون باسم المظلومية.. ويهتفون في وجوه الناس "لقد أُخذ حقي".. لكن لو تفحّصت ما بين يديه.. لوجدت أن ما ناله من مكاسب وامتيازات.. يفوق حقه بعشرات المرات.. ولكنه.. اعتاد الرضاعة من كل ضرع.. ولم يعد يتوقف.. حتى وهو شبعان.. فإن لم يتم تعيينه في منصب رفيع.. صرخ بالظلم.. وإن لم يُمنح رتبة عسكرية أعلى من تلك التي تقاعد عليها.. أو لم يتم ترقيته الى الدرجة الاولى.. او الخاصة.. صاح بأن الواسطة تسيطر على البلد.. وإن تجاوزوه من بين المتقاعدين أحدُ لمنصب محافظ.. أو سفير.. قلب الطاولة.. وبدأ الحديث عن المحاصصة.. والإقصاء.. والتهميش.
وفي الحقيقة.. إن هذا النمط من البشر.. موجود بكثرة في المجتمعات المتأرجحة.. بين العاطفة والعدل.. حيث يُكافأ البعض بناءً على قصته.. لا على كفاءته.. فيُصبح ضحية الأمس.. هو "لكوع" اليوم.. يحصل على المقعد الفاخر.. لأنه من الأيتام.. لا لأنه الأجدر.
وقد قال علماء الاجتماع.. إن بعض الأفراد.. يكوّنون ما يُعرف بـ"هوية الضحية".. يُعيد إنتاج المظلومية.. كلما واجه واقعاً لا يناسب طموحه.. يريد أن يحصل على التقدير.. والسلطة.. والمكانة.. لا لأنه يمتلك المؤهلات.. بل لأنه مرّ بتجربة أليمة في طفولته.. أو شبابه.. وكلما شعر أن ما بيده لا يكفي نهمه.. عاد إلى سرد القصة القديمة.. ليكسب بها عطفاً جديداً.
وفي علم النفس.. تُعرف هذه الحالة بـ"الاعتمادية المرضية".. حيث يتعلم الشخص.. أن الحصول على ما يريد.. لا يأتي من بذل الجهد.. بل من إثارة الشفقة.. ويظل يعتاش على تلك العاطفة.. حتى لو تحول من يتيمٍ.. إلى صاحب شركة.
الجدي "اللكوع".. لا يهدأ له بال.. إن لم يرضع من كل ضرع.. ولا يصمت.. إلا حين يشعر أن كل الحظ قد انصبّ في حجره.. فإن زاحمه أحد.. صاح قائلاً "أنا اليتيم.. أين حقي؟!".
أما الحق الحقيقي.. فهو أن يأخذ الإنسان بقدر ما يعطي.. وأن نمنح الرحمة للضعفاء.. لا أن نحولها إلى موردٍ دائمٍ للمنتفعين.. وأن لا نُربّي "اللكوع".. ثم نشتكي من صراخه بعد أن يشبع.
نعم.. نحن قومٌ لا نمنع الخير عن أحد.. لكننا بدأنا نُدرك.. أن بيننا من لا يشبع.. ولا يصمت.. ولا يرضى.. لأنه ببساطة.. تعلّم أن يُرضِع من كل ضرع.. ولا يرى في نفسه.. إلا يتيماً.. ولو امتلك الدنيا وما فيها.