* العرش والجيش والعشائر أعمدةُ الدولة وحماتُها
في ذكرى الاستقلال تتشابك المشاعر وتتلو ترتيلتها المقدسة: حمدًا لله على استقرار الأردن، واستمرارية عبوره نحو الإنجاز والبناء وكل ما نشهده من عظمة الدولة واقعًا وتاريخًا، وعمقًا معرفيًّا وحضاريًّا.
من معان كان العهدُ بين الملك عبدالله الأول وطلائع الجند وشيوخ العشائر، لبدء مسيرة بناء الدولة بعد أن كانت ثمَّةَ حكوماتٌ مناطقيةٌ مفرَّغةٌ من فكرة مشروعية الدولة، كانت الرؤية في نهاية الربع الأول من القرن العشرين هي قراءة ثاقبةٌ للتحولات التاريخية في مشهد جغرافية الأردن، وطبيعة التكتلات العشائرية دفعًا لمخاطر الآخر، وجلبًا لمصالح أبنائها، التفكير بتأسيس دولة بُعَـيْـدَ تفكيك الدولة العثمانية وخروجها من مسرح الشرق العربي كان واجبًا يفرضُه الدين، والمسؤوليةُ القومية، والخشيةُ على الأردن من التشظِّي في الجوار، وما كان الأردن إلا قلبًا ومركزًا.
لم تكن الجغرافيا الأردنية غائبةً عن سَيرورة التاريخ وأحداثه بدءا من دولة الأنباط ومرورًا بالدولة الأموية حتى الدولة المماليك ودور العشائر الأردنية في معركتي حطين وعين جالوت وما سبقهما وتلاهما من وقائع تاريخية حددت مصير الأمة، ما كان يتراءى للناظر المتوَسِّم هو حقيقة واقعية العشائر الأردنية أو القبائل قُبيل تأسيسِ الإمارة من فوضى الغزو، وسَطوة حقِّ القوة، وانتشار الأمية الكتابية والمعرفية، وهي من مخلفات أزمنة التتريك لجعل المشرق العربي كله في حَواشي الحضارة، ومن هنا كان الإحساس الوطني يطَّرِدُ نحو تأسيس دولة النظام ونظام الدول، وهذا ما كان يفكر به الأردنيون آنذاك عندما بايعُوا الملكَ المؤسس على ميثاق الشرف والعُهدة الأردنية؛ ليكون الأميرَ القائدَ في عهد الإمارة والملكَ القائدَ في العهد الملكي، أي أن الدعوة للمبايعة جاءت من شيوخ العشائر أولًا، ثم من جميع الأردنيين، وقد كانت تتجدد مع استقلال الدولة واعتلاء الملك عبدالله الأول العرش، ومع كل ملك تكون البيعةُ تصديقًا ووفاءً للمبايعين الأوائل في ضوء الالتزام بمبادئ البيعة الأولى.
الحديثُ عن العشائر هو حديث عن المجتمع الأردني بكل تفاصيله وما مِنْ عشيرةٍ أو مكونٍ إلا وفيه عسكريون يحملون على رؤوسهم التاجَ رمز العرش والدولة، وأغلب الأردنيين هم أبناءُ الجيش إما عاملون في وحَداته، أو متقاعدون يضاف إليهم الذين قضَوا نَحْبَهم وأبناؤهم، ولا ننسى أسر الشهداء، فكل أولئك وهؤلاء تتزين صفحاتُ قلوبهم بالولاء للأردن والعرش والجيش.
تتجدد ذكرى الاستقلال وفي قلوب الأردنيين كرامةُ المؤسسين، وهيبةُ الدولة التي يمثلها ثلاثية: العرشُ بما يحمل من أمانة المُلْك والعمل والإنجاز، والجيشُ بكل عناصره وأجهزته الأمنية، والعشائرُ المغروسةُ أوتادها في جوف الصخر كجذوع الزيتون المُعَمَّر.
نفحات الله المباركاتُ تتضوَعُ طيبًا وأمنًا وسلامًا على وطن أكبر من كلِّ عاشقيه، وهمْ يفتدونَه حبًّا وكرامةً وجلالًا، فهم فتيتُكَ الذين توضؤوا وقُوفًا على ثغورِك بالدم، وأقسمُوا لك على جمرِ الخيول وبِيض المُرْهَفات، وللرماحِ الحُمر قالوا تكلمي، وخطَّوا وشْمَ حروفكَ على جِداريات مواكبِ الشهداء، وفي محاريب المآذن وقِبابها، وتلبيات الحناجر حينما كانت تصلي صلاةَ مودِّعٍ على حوض المنايا، فالاستقلال بعثُ أمةٍ قبل أن يكونَ ميلادَ وطن، فما كنتَ فينا إلا نسيمَ صَبًا مِسْكيَّ الأرَج والأُقحوان، وفوحَ ياسمين عطريَّ الندى، وخُضرةَ تينٍ مقدَّس وزيتون معتَّق، وداليةً معلَّقة عناقيدُها في صباحاتِ القلب ونفحاته، وخيمةً نسكن إلى دِفئها حينما الريحُ تنشرُ سَمومَها في غروب الزمن ومُوجعاتِ الليالي، وما نراكَ إلا قِيثارةً للشعر والسِّنديان، وغيمةً تستهِلُّ وتمطر.