ما بين زخّ المطر وغثاء السيل .. مسؤولية مَن؟! ..
محمود الدباس - أبو الليث
25-05-2025 09:48 PM
ما بين زخّ المطر.. الذي ينبت الخير.. ويُفرح الوجدان.. ويملأ الأرض عطراً ونماءً.. وبين غثاء السيل.. الذي يعلو بلا فائدة.. ويجرف دون وعي.. ويخلف وراءه الطين والركام.. فرق شاسع.. لا تدركه العيون المبهورة بالبريق الزائف.. ولا تستشعره النفوس.. التي اعتادت تصديق كل ما يتدفق من شاشاتنا.. ومواقعنا..
في زمن مضى.. كان للمعلومة هيبة.. وكانت الحروف لا تُنشر.. إلا بعد أن تمر عبر بواباتٍ من التمحيص والتدقيق.. وكانت أعمدة الصحف.. أشبه ببوابات المدن الكبرى.. لا تُفتح.. إلا لمن يحمل زاداً من فكرٍ.. أو ومضة من وعي.. أو حتى جملة صادقة.. تسند بها جدار الحقيقة..
اليوم.. تشابهت الحروف.. وتداخلت الأسماء.. وذابت المعاني بين طوفان المقالات.. والتقارير.. والقصص المنسوخة.. فكل مَن امتلك هاتفاً محمولاً.. وظن نفسه كاتباً لمجرد أنه يجيد تركيب جملة مبتورة.. صار له منبر.. وصار يُنشر له ما لا يُقرأ..
إن غثاء السيل في عصرنا هذا.. ليس فيضاً من ماء.. بل فيضاً من المحتوى الهابط.. من المقالات التي لا تسمن فكراً.. ولا تغني وعياً.. من النصوص التي تصرخ بالركاكة.. وتزحف على سطورها زحفا.. دون روح.. ولا فكرة.. ولا صدق..
مَن المسؤول عن هذا الغثاء؟!.. الكاتب؟!.. أم الموقع؟!.. أم القارئ الذي يهلل لكل ما يُنشر.. دون أن يسأل نفسه عن القيمة؟!..
إن الكاتب الذي يكتب بلا فكرة.. ويخط بلا هدف.. ويظن أن زخرفة الجمل.. تغني عن عمق الفكرة.. لا يستحق أن يُقرأ له سطر.. وإن الموقع الذي ينشر بلا تدقيق.. ويستقبل كل ما يُرسل إليه.. وكأنه بضاعة لا ترد.. إنما هو شريك في خيانة الكلمة.. وفي دفن المعنى.. تحت تراب "الترافيك" والمشاهدات..
كم من مقال كُتب بلغة مترهلة.. وأخطاءٍ املائية لا تُغتفر.. ونُشر على صدر الصفحة الأولى.. وشريط الاخبار المهمة.. ويتم الترويج له عبر العواجل.. وكأنه فتحٌ مبين.. وكم من مقال صادق نبيل.. كُتم في أدراج المحررين.. او وضع في مكانٍ من الصفحات لا يصله قارئ.. لأنه لا يُجيد المجاملة.. ولا ينحني للعلاقات العامة..
وكم من قارئ يتوقف عند العنوان.. ويشارك المقال.. وكأنه قرأه.. وهو لم يقرأ منه سوى اسمه البراق.. أو صورة كاتبه.. التي طُبعت بالفوتوشوب.. ليبدو مثقفاً.. وهو أبعد ما يكون عن الفكر..
من هنا تبدأ المسؤولية.. من احترام الكلمة.. من تقديس الفكرة.. من التوقف عن دعم الرداءة.. لأجل اسم صاحبها.. أو باسم الحرية.. وعن الترويج للتفاهة.. تحت شعار "لكلٍّ أن يعبّر"..
ليس كل مَن خط سطراً كاتباً.. ولا كل من نشر مقالاً مبدعاً.. فثمة مَن يزرع زخ المطر.. وثمة مَن لا يورث.. إلا غثاء السيل..
اليوم.. ليست المشكلة في كثرة المقالات.. بل في نوعيتها.. وصدق محتواها..
ومطلوب اليوم.. لا ازدحام المواقع.. بل ندرتها المنتقاة.. لا أسماء لامعة فارغة.. بل أقلام مغمورة صادقة..
ومَن يُقصي القلم الصادق.. ليحتفي بالسطحي المتملق.. لا يقل تفاهة عن صاحبه.. وإن لبس ألف قناعٍ من الحكمة والرصانة.. وتنطع بمحاربته للتفاهة والتافهين..
وفي النهاية.. القارئ شريك أيضاً.. فإن لم يرتفع ذوقه.. ولم يحصن وعيه.. ولم يتوقف عن منح الانتباه للركيك والمتسلق.. فإنه يروّي الغثاء.. دون أن يدري..
فما بين زخ المطر.. وغثاء السيل.. تبقى المسؤولية مشتركة.. ولكن الجُرم الأكبر.. يبقى في عنق من يُدرك الرداءة ويصمت.. أو يروج لها ويبتسم.. ثم يحدثك عن عمق الفكرة.. وأمانة الكلمة..
فمن يزرع الغثاء.. لا يحق له أن يحدثنا عن الحصاد.. وجودة المحصول..