المياه الجوفية في الوطن العربي: من الشح إلى الاستدامة
د. أميرة يوسف ظاهر
30-05-2025 11:01 AM
تعد المياه الجوفية أحد أهم الموارد الاستراتيجية في العالم العربي، خصوصا عندما تكون ممتدة عبر الحدود السياسية، ما يجعل إدارتها تحديا مشتركا يتطلب تنسيقا إقليميا محكما وأطرا قانونية واضحة، إذ تتفاقم التحديات مع تزايد الضغط السكاني والتوسع الزراعي والتغيرات المناخية، ما يعزز الحاجة إلى حلول مبتكرة واستباقية لضمان الأمن المائي الجماعي.
ورغم ندرة الاتفاقيات الملزمة، فإن اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 حول استخدام المجاري المائية الدولية غير الملاحية، تشكل أساسا قانونيا يعتمد عليه، فتستند الاتفاقية إلى مبادئ مركزية أبرزها الاستخدام المنصف والمعقول وعدم التسبب بضرر ذي شأن، والتبادل المنتظم للبيانات، لكن في السياق العربي تظل آليات تطبيق هذه المبادئ على المياه الجوفية محدودة وغالبا ما تخضع للاجتهادات الثنائية والمواءمات السياسية، لا للأطر القانونية الملزمة.
في الواقع تختلف الممارسات من حوض إلى آخر تبعا لوجود اتفاقيات أو غيابها؛ ففي حالات غياب الإطار القانوني تلجأ الدول إلى مبدأ السيادة المقيدة الذي يسمح بالاستخدام الداخلي للمياه شريطة عدم إلحاق ضرر بالدول المجاورة، وتعد المناطق الهيدرولوجية العازلة أداة عملية للحد من الضخ الجائر، إذ تمنع فيها الأنشطة المكثفة ويراقب فيها الاستخدام عبر لجان فنية مشتركة.
ومن التجارب الميدانية المهمة، يبرز حوض الديسي المشترك بين الأردن والسعودية، فيتم الالتزام بعدم الحفر قرب الحدود وتتم إدارة الحوض بتنسيق فني منتظم رغم غياب اتفاقية تفصيلية، وفي المقابل يظهر وادي السرحان هشاشة الوضع عند غياب اتفاق قانوني، إذ يتم استغلال المياه من الجانبين دون تنظيم فعلي، مما يستدعي مبادرة فورية لوضع إطار ينهي التنافس غير المنظم. أما حوض اليرموك فهو مثال واضح على صعوبة الالتزام بالاتفاقيات؛ إذ تكرر خرق الاتفاق الموقع بين الأردن وسوريا عام 1987، وتضاءلت فعالية سد الوحدة نتيجة للاضطرابات السياسية وغياب آليات الحوكمة الفعالة.
وفي ظل محدودية البنية التحتية المؤسسية تؤكد منظمات مثل الإسكوا واليونسكو والبرنامج الهيدرولوجي الدولي على ضرورة تبني نهج متكامل يشمل إنشاء مراكز مراقبة إقليمية، وتعزيز الشفافية في تبادل البيانات الهيدروجيولوجية واعتماد نظم إنذار مبكر لمراقبة التغيرات المناخية المؤثرة على الخزانات الجوفية، وهذه الأدوات يمكن أن تهيئ بيئة مناسبة لإبرام اتفاقية عربية إطارية تراعي احتياجات كل دولة وتوزع المسؤوليات بإنصاف، خصوصا في ظل هيمنة قوى غير عربية على مصادر مائية حيوية في سوريا والعراق ومصر.
إن التحدي لم يعد فقط في تقاسم المياه، وإنما في بناء شراكة تعزز مناعة الأمن المائي العربي في وجه أزمة مائية عالمية تلوح في الأفق؛ ولذلك يجب أن تبنى إدارة المياه الجوفية المشتركة على أساس من التكامل الإقليمي والسيادة التشاركية بأطر قانونية قابلة للتنفيذ وآليات رقابة مشتركة تضمن الاستدامة وتمنع النزاعات، وتستجيب لتسارع التغيرات المناخية واحتياجات الأجيال القادمة. فالمياه في عالمنا العربي لم تعد مجرد مورد طبيعي، بل قضية سيادة وتنمية وأمن قومي.