بدنا إشي ينحط بالصحن .. منشان نغمس
محمود الدباس - أبو الليث
01-06-2025 02:05 PM
أثار شجوني حديث الدكتور هايل ودعان الدعجة.. حين تحدث عن الحياة الحزبية.. بأنها لا تُدرس نظرياً.. بقدر ما تُمارس فعلياً.. وكأنني سمعت صوتاً بداخلي يقول.. هذا الكلام يُغمّس لا يُناقش.. يُؤكل ساخناً لا يُؤجل..
فما أكثر ما سمعنا من محاضرات.. وما أكثر ما شهدنا من ندوات.. تتحدث عن التعددية.. والديموقراطية.. والعمل الحزبي.. وكأننا نعيش في مدينة فاضلة.. لا ينقصها سوى القليل من الوقت.. لتتحول من خيال إلى واقع.. ولكن الواقع يعلمنا عكس ذلك.. فما لا يُمارس.. لا يُتعلّم.. وما لا يُترجم إلى سلوك.. يظل حبراً على ورق..
نظريات السياسة.. مثل وصفات الطعام.. قد تُكتب بإتقان.. وتُلقى بإقناع.. ولكن ما الفائدة.. إن بقيت في الكتب؟!.. لا رائحة تفوح منها.. ولا طعم يُشعرنا بالشبع.. نحتاج أن نرى الأيادي وهي تعجن.. والقدور وهي تغلي.. والموائد وهي تمتد بصدق..
كم من ندوة خُتمت بشهادات مشاركة.. دون أن تترك أثراً في أرض الواقع.. وكم من متحدث لبق.. غادر المنصة.. ولم يجرؤ أن يشارك في لجنة حي.. أو شارك في مجلس طلابي.. أو مجلس نقابة.. أو يطرق باب مؤسسة حزبية.. لأن الفعل أصعب من القول.. والتطبيق امتحان.. لا يجتازه إلا مَن تمرّس..
وهنا يكمن الخطر الأكبر.. حين تصبح المقاعد الحزبية جوائز.. لا استحقاقات.. وتُمنح لمن يملك العلاقات.. لا الكفاءات.. ولمن يشتريها.. لا لمن يستحقها.. فالحياة الحزبية ليست مزاداً.. بل ميداناً لا يثبت فيه.. إلا مَن مارس.. وعرِق.. وتحمّل المسؤولية..
الديموقراطية لا تُدرّس في المحاضرات فقط.. بل في اختلاف الآراء داخل غرفة مغلقة.. دون أن تنكسر العلاقة.. والعمل الحزبي لا يُفهم من الكتب فقط.. بل من السهر الطويل في حمل همّ الوطن.. ومن الوقوف مع الناس في البرد والحر.. من أجل مطلبٍ عادل.. أو موقف مبدئي..
نعم.. لا نقلل من قيمة المعرفة النظرية.. فهي كالإضاءة التي تهدي الخطى.. ولكن مَن يكتفي بها.. لن يتحرك شبراً واحداً إلى الأمام.. سيظل يدور في مكانه.. كما تدور أوراق الخريف في مهب الريح.. جميلة الشكل.. لكن بلا جذور..
المجتمعات لا تتقدم بالتنظير وحده.. بل بتجريب الفكرة.. وتحمّل مسؤوليتها.. وممارستها رغم التعب.. كم من فكرة عظيمة.. خُنقت في قاعات النقاش.. لأنها لم تجد مَن يحملها إلى الميدان..
ولذلك.. فإن أخطر ما نواجهه اليوم.. هو هذا الاكتفاء الذهني.. هذا الشعور الوهمي بأننا نشارك.. لمجرد أننا نفهم.. بينما المشاركة الحقيقية.. لا تكون إلا بالفعل.. لا بالتصفيق.. ولا بالإعجاب على منشور..
إذا لم تدخل الفكرة في الوريد.. وتتحول إلى سلوك.. فلن تكون إلا ترفاً فكرياً.. نعلقه على جدران المجالس الثقافية.. وننساه عند أول موقفٍ يحتاج قراراً.. لا محاضرة..
وهنا تكمن أهمية ما قاله الدكتور هايل.. لأن الحياة الحزبية.. لا تُولد من رحم الصفوف الدراسية فقط.. بل من الحارات الشعبية.. والمواقف اليومية.. واللحظات التي نختار فيها أن نكون جزءاً من التغيير.. لا مجرد محللين من بعيد..
نحتاج أن نغمِس أيدينا في طين الواقع.. أن نتسخ قليلاً.. أن نختلط بالناس.. أن نخطئ ونتعلم.. لأن ما يُمارس يبقى.. وما يُحكى يتبخر مع أول موجة مللٍ.. أو شك..
دعونا نعلّم أبناءنا.. أن الجدال.. لا يبني وطناً.. وأن الحروف.. لا تُسقط فساداً.. وأن الشاشات.. لا تُحدث تغييراً.. إلا حين يكون خلفها مَن نزل إلى الشارع.. وجرب أن يكون مواطناً فاعلاً.. لا متفرجاً..
المدارس تُعلّم.. ولكن الواقع يُربّي.. والكتب تُضيء.. ولكن الشوارع تُقنع.. والندوات تُدهش.. ولكن المعايشة تُغيّر..
فليكن لكل نظرية موضع قدم.. ولكل فكرة ظلّ على الأرض.. أما التنظير وحده.. فهو كمن يملك خريطة الطريق.. لكنه لا يجرؤ أن يمشي الخطوة الأولى..