facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




هل العفو العام حق مكتسب؟


د. محمود الشغنوبي
03-06-2025 11:21 AM

في كل مرة تُتداول فيها أنباء عن قرب صدور عفو عام في الأردن، يرتفع منسوب الأمل في قلوب آلاف المحكومين خلف القضبان، وتغمر الترقب عيون عائلات تنتظر ما يشبه المعجزة. لحظة واحدة قادرة على إعادة صياغة مصير إنسان، بل مصير أُسَرٍ كاملة، أرهقتها المحاكم والسجون والتبعات القانونية والاجتماعية والمالية.

في زحمة هذا الانتظار الشعبي، تخرج تساؤلات مشروعة: هل العفو العام حق مكتسب؟ أم أنه قرار استثنائي تمنحه الدولة وفق ما تقتضيه الظروف؟ هل من الطبيعي أن يتحول قانون العفو إلى طقس دوري يتكرر كل بضع سنوات؟ وهل ما زال قادرًا على إحداث التوازن بين العدالة والرحمة؟

العفو العام، كما يُفهم في القانون الأردني، هو قانون يصدر عن مجلس الأمة بناءً على إرادة ملكية سامية، يقضي بإسقاط العقوبة عن أفعال جرمية معينة، سواء صدر فيها حكم أم لم يصدر، ويزيل آثار الجريمة كأنها لم تكن. ويختلف عن العفو الخاص الذي يُمنح لفرد بعينه ويُسقط العقوبة فقط دون محو آثار الجرم.

ورغم أن العفو العام ليس "حقًا فرديًا" مضمومًا في جيب كل سجين، فإن تكرار صدوره عبر العقود، وفي مناسبات وطنية أو سياسية، جعله في الوجدان الشعبي أقرب إلى الحق الأخلاقي الذي ينتظر الناس لحظة الإفراج عنه.

لا يمكن الحديث عن العفو العام في الأردن دون التوقف عند الطبيعة المتسامحة والعقلية الحكيمة التي تميزت بها القيادة الهاشمية عبر تاريخها. فمنذ تأسيس الإمارة، حمل ملوك بني هاشم روح الأبوة أكثر من سطوة الحاكم، واختاروا طريق التهدئة والمصالحة كلما احتدم المشهد.

كان الملك المؤسس عبدالله الأول يتنقّل بين القبائل لحل الخلافات بنفسه، واعتمد سياسة "طيّ الصفحة" لبناء الوطن الناشئ. أما الملك الحسين بن طلال، فاشتهر بعبارته الشهيرة: "دعونا نفتح صفحة جديدة"، والتي قالها في لحظات سياسية حرجة، ليرسّخ فكرة أن التسامح ليس ضعفًا، بل شجاعة سياسية وأخلاقية.

وجاء الملك عبدالله الثاني ليواصل النهج ذاته، مستخدمًا العفو العام كأداة إنسانية واجتماعية، وليس مجرد بند قانوني. وفي أكثر من مرة، اختار أن يُخرج الآلاف من السجون، ليفتح أمامهم باب الأمل ويمنحهم فرصة العودة إلى المجتمع كأفراد صالحين.

إن روح التسامح هذه ليست قرارًا سياسيًا عابرًا، بل هي رؤية حكم، تقوم على أن المجتمع لا يُبنى فقط بالقوانين والعقوبات، بل أيضًا بالعفو والمصالحة، واحتواء الخطأ دون التراخي مع الجريمة.

لكن إذا كانت روح التسامح حاضرة، فإن الواقع القانوني أكثر تعقيدًا. فالعفو العام ليس منصوصًا عليه كحق فردي أو دستوري، بل هو استثناء مشرّع، يلجأ إليه المشرّع حين يرى ضرورة لذلك. ولهذا، فإن كل موجة مطالبة بالعفو، لا تستند إلى "حق قانوني"، بل إلى "حالة اجتماعية" أو "ضرورة وطنية".

يُبرر البعض صدور العفو العام بأنه وسيلة لتخفيف الضغط عن السجون التي تعاني من الاكتظاظ، أو فرصة لإعادة دمج المخطئين غير الخطيرين في المجتمع، أو حتى بوصلة تهدئة اجتماعية في ظل أوضاع اقتصادية صعبة.

لكن في المقابل، يُحذر المختصون من أن الإفراط في استخدام العفو العام قد يُضعف هيبة القانون، ويُفقد العقوبة معناها الردعي، ويشجع على التراخي في احترام النظام العام. فمن أمن العقوبة، تجرأ على الجريمة.

هنا تبرز الإشكالية الكبرى: من يستحق العفو؟

هل يشمل من ارتكب جرائم مالية صغيرة؟

هل يُعفى من عليه شيكات بلا رصيد اضطراريًا؟

هل يُستثنى من تاجر بالمخدرات أو من اعتدى على الحياة أو العرض؟

مع كل عفو عام، تحتدم النقاشات بين من يريد شمولًا واسعًا، ومن يطالب باستثناءات صارمة. ويتحول البرلمان إلى ساحة تجاذب بين الرحمة والحزم، وبين منطق القانون ومنطق العاطفة.

بالعودة إلى الذاكرة الوطنية، نجد أن العفو العام لطالما جاء في لحظات فارقة: بعد احتجاجات شعبية، أو عند تغير الحكومات، أو في مناسبات الاستقلال والأعياد الوطنية. ولذلك، فإن الناس لم يعودوا يتعاملون معه كاحتمال، بل كتقليد سياسي، يتوقعونه كلما ضاقت الحال.

وقد ساهم الإعلام، أحيانًا، في رفع سقف التوقعات، فغدا العفو، في المخيال الشعبي، وكأنه "واجب على الدولة"، لا قرارًا استثنائيًا.
العفو العام، إذًا، هو خليط معقد من القانون والسياسة والأخلاق والوجدان الشعبي. لا هو حق مكتوب، ولا هو هبة مجانية، بل توازن حساس بين العدالة والرحمة.

يبقى السؤال الأهم: هل آن الأوان لإعادة صياغة فلسفة العفو العام في الأردن؟

ربما ليس لإلغائه، بل لضبط شروطه، وتحديد توقيته، وضمان ألا يتحول إلى ملاذ للمخالفين، بل إلى جسر للعودة، لمن يستحق فقط.
وفي النهاية، يبقى التسامح سمة من سمات الأردنيين، قيادة وشعبًا، لكنه بحاجة إلى حكمة في التطبيق، وعدالة في التقدير، وجرأة في الإصلاح.

وسلامتكم..





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :