"يوخذ مليون من الخزينة .. لكن بده يدفع المخالفة"
محمود الدباس - أبو الليث
03-06-2025 03:56 PM
في إحدى الجلسات التي لا تزال راسخة في الذاكرة.. سمعت أحدهم يروي حادثة.. بدت كأنها من نسج الخيال.. لكنه حكاها بثقة الذي خبر دهاليز الحكم والإدارة.. قال كنت مسؤولاً عن تطبيق نظام مخالفات الوقوف بجانب الطرقات وبعض المواقف الحكومية المدفوعة الأجر في إحدى الدول.. وحدث أن تعرضتُ لمخالفة وقوف غير قانوني.. فذهبت مباشرة إلى المسؤول الحكومي عن الأمر.. والذي أصبح بيني وبينه تعامل مباشر.. وطلبت منه إلغاء المخالفة.. فما كان منه.. إلا أن أخرج ملفاً من درج مكتبه.. وأراني إيصالاً رسميا يحمل اسم ابن حاكم البلد.. وقال هذا ابن الحاكم.. دفع المخالفة.
ابتسمت بدهشة.. وقلت بكل هدوء.. لكن ابن الحاكم.. يستطيع أن يعوض بدل هذه المخالفة أضعافاً مضاعفة.. بشكل مباشر.. أو عبر مشاريع ضخمة.. فما كان من ذلك المسؤول.. إلا أن نظر إليّ بحدة وقال.. من عندي.. بده يدفع المخالفة.. أنا مؤتمن على ذلك.. ويروح على الخزينة.. ويوخذ مليون.. مش ذنبي.
تلك العبارة.. بقيت تتردد في رأسي طويلاً.. لم تكن مجرد موقف عابر.. بل اختصرت فصلاً كاملا من معاني النزاهة الحقيقية.. حين يكون المسؤول واقفاً على الثغرة.. لا يسمح أن يُؤتى الوطن من جهته.. لا يخشى أن يحاسِب ابن الحاكم.. ولا يرى في نفسه.. إلا بوابة أمان للناس.. والحق.. والخزينة.
تذكرت هذه الحكاية.. وأنا أقرأ خبراً بسيطاً في ظاهره.. عميقاً في دلالته.. يقول إن 92% من المركبات الحكومية.. أصبحت مراقبة بنظام التتبع الإلكتروني.. وإن ما تبقى منها.. سيتم ربطه قريباً.. للوهلة الأولى شعرت بالارتياح.. خطوة نحو مزيد من الانضباط.. لكنها سرعان ما تبخرت.. حين تذكرت شيئاً آخر.. نحن لا نعاني من غياب الأنظمة.. بل من كثرة الاستثناءات.
ففي بعض المؤسسات.. هنالك مدير.. يعرف أن لديه ثغرات في تصرفاته.. أو أخطاء في إدارته.. ويعلم تماماً أن هنالك مَن يستطيع فضح تلك الثغرات.. لذلك لا يجد حرجاً في أن يطلب له استثناءً رسمياً.. لاستخدام سيارة الحكومة خارج ساعات الدوام.. بذريعة أن موظفه هذا.. يتأخر يومياً في المكتب لإنجاز معاملات مهمة.. ويقنعك أن تلك الساعة.. التي كان سيقضيها في الطريق للوصول إلى بيته.. أصبحت منجزة في مكتبه لخدمة الوطن.. لذلك يستحق أن ينعم بسيارة حكومية كاملة الأوصاف.. ويتباهى بها أمام أهله وجيرانه.. لأن لون لوحتها الأحمر.. يشي بمنزلته.. وليس بوظيفته فقط.
والمضحك المبكي.. أن كثيراً من هذه الساعات المزعومة.. تُصرف لتغطية ثغرات قانونية.. أو تمرير بعض الأوراق.. التي لا تتحمل النور.. لذلك لا أحد يسأل.. لماذا يتأخر هذا الموظف تحديداً.. بل يسارع مسؤول أعلى.. إلى حماية موقعه.. من خلال منح استثناء لمرؤوسه.. بدلاً من مواجهته.. وكأن العلاقة بينهم مبنية على قاعدة.. اكسبني لأسكت عنك.
نحن لا نحتاج أن نراقب السيارات.. ولا أن نربطها بالأقمار الصناعية.. ولا أن نستنفر الوزارات لتركيب الأنظمة.. نحن فقط بحاجة إلى إغلاق بوابة الاستثناءات.. وإعادة تعريف كلمة "مصلحة عامة".. فمن يتأخر في مكتبه لكي يسرق ساعة.. لا يستحق أن يُكافأ بسيارة.. ومَن يملك الجرأة ليبرر مخالفة إدارية.. لن يتردد في تبرير مخالفة قانونية.
لو أُغلق باب الاستثناءات.. ستُغلق أبواب الفساد من خلفه.. ولن يحتاج الموظف إلى السيارة ذات اللوحة الحمراء.. ليرفع رأسه أمام الناس.. بل سيرفعه بقوة عمله.. ونزاهة ضميره..