سليمة القماز .. السفيرة السلطية .. غير المعينة ..
محمود الدباس - أبو الليث
04-06-2025 11:58 PM
في بيتٍ سلطيّ محافظ.. عرفت الجدران صمتاً مطرزاُ بالهيبة.. واشتد عود فتاة.. لم تكن تشبه سواها.. كانت تدرك أن الطريق لن يكون مفروشاً.. إلا بما تغزله من إرادة.. وأن العلم هو السلاح الذي لا يصيبه صدأ الزمن.. ولا يُكسر على يد ظلمٍ.. أو جهل..
غادرت بيتها الصغير.. وكل ما يشبه الأمان.. عام 1954 نحو معهد المعلمات في رام الله.. لم تكن الرحلة مجرد انتقال من مدينة إلى أخرى.. بل كانت انتقالاً من التقاليد نحو الريادة.. من الصمت إلى الخطابة.. من البيت إلى ساحة النضال المعرفي والاجتماعي..
عامان فقط.. وكان اسمها حاضراً في القدس.. معلمةً تبذر بذور العلم بين حجارة المدينة.. هناك..
في عام 1956.. لم تكن فقط تعلم الأبجدية.. بل كانت تقود المظاهرات وتخطب بالجماهير.. ترفض حلف بغداد.. وتصرخ لأجل الحرية.. صرخت.. ولم تخف.. حتى حين داهم الجيش البريطاني مدخل السلط.. وسقط الشهداء.. بقيت هي واقفة في القلب.. تهتف للحياة.. رغم كل الموت الذي مرّ بجانبها..
ثم حملت دفاترها من جديد.. وعام 1957 كانت في الكرك.. مدينة العناد والتاريخ.. تُدرّس وتربي وتُكمل رسالتها.. وكأنها تلاحق الشمس حيثما غابت.. فلم تلبث أن انتقلت إلى غور نمرين في 1960.. توغل في عمق الأرض.. لتغرس العلم كما تُغرس أشجار الزيتون.. بثبات.. وبيدين متعبتين من الكرامة..
أما محطتها الكبرى فكانت بين 1962 و1984.. في مدارس محافظة البلقاء.. معلّمة ومديرة.. تربّي أجيالاً.. لا تحفظ المادة فقط.. بل تحفظ الوطن في داخلها.. وفي هذه الفترة.. كانت من مؤسسي الهلال الأحمر الأردني فرع السلط.. وكانت رئيسة وعضواً نشطاً في الاتحاد النسائي.. هناك كانت تمسك بيد المرأة.. وتفتح أمامها باباً من نور..
ولأن الضوء لا يُطفأ.. أكملت رحلتها خارج الحدود.. في الكويت.. من 1984 إلى 1988.. معلمة ومديرة في مدارس السعادة.. تنشر رسالتها في الغربة.. كما نشرتها في الوطن.. ثم تعود مجدداً.. إلى السلط.. التي لا تغيب عن روحها.. لتدير مدارسها الأهلية من 1994 حتى 2012.. سنواتٌ لم تكن مجرد أرقام.. بل كانت دفاترَ مكتظة بالعطاء.. وصوراً لا تُنسى من القيادة التربوية..
لم تكن سليمة صالح القماز مجرد معلمة.. بل كانت فكرةً تمشي على قدمين.. تجمع بين الطباشير والموقف.. بين المنهاج والمنبر.. وكانت تكتب همساتها الاجتماعية في مقالاتٍ عرفت باسم "همسة".. وكأنها كانت تبوح للعالم بما لا يُقال صراخاً.. وتؤلف كتاباً عن الرائدات.. لأنها كانت واحدة منهن.. بل سيدة الصف الأول في هذا الدرب..
سليمة القماز أم خلدون.. لم تكن وزيرة.. ولا سفيرة.. ولم تحمل أي منصبٍ رسمي.. لكنها كانت فوق كل هذا.. لأنها حملت السلط كلها في قلبها.. وجعلتها حاضرة في كل زاوية من الوطن.. فهي السفيرة التي لم يُعينها أحد.. لكنها اختارها الشعب..
وهنا.. حين نكتب عنها.. لا نفيها حقها.. بل نفي أنفسنا واجب الوفاء.. لتبقى أم خلدون عنواناً لكل فتاة أردنية.. تؤمن أن الكرامة.. لا تُستعطى.. بل تُنتزع بالعلم والموقف.. وأن الأمكنة الصغيرة تصنع نساءً بحجم الوطن.. بل بحجم التاريخ نفسه.. فهي راعية الحرف والكرامة..
فمثل هذه القامة.. يجب أن يُخلّد اسمها بمدادٍ من ذهب..
فعلى روحها الطاهرة الرحمة..