هناك لحظات.. حين يعلو صوت النقاش.. وتتسارع وتيرة الحديث حول القضايا الكبرى.. يخرج من بين الصفوف.. مَن يظن أن المشاركة حقٌ مطلق.. ولو كان الكلام على غير علم.. أو على غير دراية.. أو حتى على غير خجل..

فترى مَن لم يعرف إلا زوايا الجهل.. يدخل بين أركان الفكر.. ويتحدث عن قضايا.. تحتاج إلى عُمق رؤية.. ونقاء فكر.. وتجربة حياة.. لكنه لا يملك من ذلك شيئاً.. سوى جرأة لا مكان لها.. وكلمات مرتجفة.. وآراء مهزوزة.. وأحياناً تاريخ مخزٍ.. لا يسمح له حتى بالجلوس في الصفوف الخلفية من الحوار.. فيصرّ أن يكون على المنصة.. ويتحدث كما تتحدث الخيل الأصيلة في الوغى.. وهو لم يعرف طريق الميادين أصلاً.. فتُقال فيه المقولة الموجعة.. "قامت الخيل تنحذي.. قام الفار مد رجله"..

ثم تأتي الفئة الأخطر.. لا لأنهم أكثر علماً.. بل لأنهم أكثر كبرياءً أجوفاً.. وأعلى صوتاً لا أكثر.. هؤلاء الذين ورثوا المال.. والاسم.. والمقعد المُسبق.. فيظنون أن كُنية أبيهم.. وجاه أبي جدهم.. تمنحهم امتياز إسكات الآخرين.. فإذا تجرّأ صاحب فكرٍ.. أو نطق صاحب رأي.. وكانت ملامحه لا تدل على نسبٍ وجاه.. ولا اسم عائلة مرموقة.. فإن أول سهام السخرية التي تُرمى عليه.. هي تلك العبارة السمجة.. "منو انت؟!".. أي مَن أنت لكي تعطي رأياً بحضورنا؟!..

وكأن الكفاءة تُقاس باسم الجد.. لا باسم الجُهد.. وكأن القيمة تُستخرج من أختام الهوية.. لا من صدى الفكر..

تراهم لا يملكون من العلم.. إلا بضع كلمات مرصوصة خطأً.. ولا من اللغة.. إلا ما يكفي لسطرٍ هزيل.. وتاريخهم الشخصي لا يملك رصيداً يُفتخر به.. سوى أرضٍ ورثوها ولم يزرعوها.. واسمٍ أضاعوه بين كؤوس الغرور.. وصدى الألقاب..

والكارثة حين يتكلمون في زمنٍ لا يرحم الجهل.. الفضاء مفتوح.. والمعلومة متاحة.. ومَن يكتب يُفضح إن كتب بخطأ.. ويُكشف إن تكلم بهذيان.. وتنهار صورتهم شيئاً فشيئاً أمام مَن يقرؤون.. حتى تتراءى للناس حقيقتهم.. وتظهر خفة أقدامهم في ميدانٍ لا يجلس فيه إلا الثقلاء..

ولذا.. آن للناس أن تُعيد تعريف الكبار.. فالكبار هم مًن يستمعون.. ويستوعبون.. ويحترمون الآخرين.. وعلينا أن نفهم.. أن القيمة ليست في مَن سبق.. بل في مَن يستحق.. فليس كل مَن قال "أنا ابن فلان" يستحق المنبر.. وليس كل مَن وُلد في بيت وجاهة.. يصلح لقول الرأي والفكرة.. وليس مَن سكتّوه يوماً بـ"منو انت؟!".. إلا مَن كشفهم بحُجته وعلمه.. وقال لهم بهدوء.. أنا الذي لم أمدّ رجلي.. حين قامت الخيل لتنحذي.. بل وقفت لأراها.. وتعلمت منها.. حتى صرت فارساً أمتطيها..