التحول من الأدوات التقليدية إلى الرقمية ضرورة للاقتصاد الأردني
د. حمد الكساسبة
12-06-2025 01:02 AM
لقد واجه الأردن عبر العقود الماضية تحديات اقتصادية بنيوية معقدة، تجلّت في ارتفاع المديونية العامة، واتساع العجز المالي، وتباطؤ النمو في القطاعات الإنتاجية. وقد جاءت هذه التحديات في سياق إقليمي وجيوسياسي مضطرب، فرض قيودًا إضافية على قدرة الدولة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود. ورغم ما بذلته الحكومات المتعاقبة من جهود إصلاحية مشهودة ضمن ما توفر من أدوات وإمكانات، إلا أن تسارع التحولات العالمية واتساع الفجوة الرقمية أظهر الحاجة الملحّة إلى تبنّي إدارة اقتصادية أكثر تطورًا، تستند إلى التقنيات الحديثة والحوكمة الذكية في توظيف الموارد وتحقيق التنمية المستدامة. ويبدو أ ن الانتقال إلى هذه المرحلة بات ضرورة لا خيارًا، إذا ما أراد الأردن تعزيز مناعته الاقتصادية وتوسيع قاعدة إنتاجه.
وتمثل الحوكمة الذكية تحولًا جوهريًا في الفكر الإداري والاقتصادي، فهي لا تقتصر على رقمنة الإجراءات، بل تقوم على توظيف البيانات الدقيقة في اتخاذ القرار، وتحقيق كفاءة أعلى في تخصيص الموارد العامة، وتعزيز الشفافية ، وتسريع تقديم الخدمات ،مما ينعكس بشكل مباشر على المواطن من خلال خدمات أسرع وأكثر دقة ، وعلى القطاع الخاص عبر بيئة أعمال أكثر مرونة واستقرارًا. وفي ظل التحديات المالية والهيكلية التي تواجهها الدولة، أصبحت هذه المقاربة ضرورة وطنية تفرضها طبيعة المرحلة وليست خيارًا إضافيًا .
بدأ الأردن بالفعل في اتخاذ بعض الخطوات نحو التحول الرقمي، مثل إطلاق بوابة الخدمات الإلكترونية، ودعم ريادة الأعمال الرقمية، وتوسيع برامج التحول في المؤسسات الحكومية . ورغم أهمية هذه المبادرات، إلا أنها ما زالت متفرقة وتحتاج إلى خطة وطنية شاملة ، والمطلوب اليوم هو بناء نهج موحّد يشمل تحديث القوانين، وربط البيانات بين الجهات الحكومية، وتأهيل الكوادر للعمل في بيئة ذكية ومترابطة .
تؤكد تجارب دولية رائدة أن الانتقال إلى الحوكمة الذكية ليس فقط ممكنًا، بل مثمرًا على أرض الواقع . ففي إستونيا، تُدار معظم الخدمات الحكومية رقميًا بكفاءة عالية . وفي كوريا الجنوبية ، تم دمج الذكاء الاصطناعي في قطاعي التعليم والصحة، مما ساهم في تحسين الجودة وسرعة الاستجابة . أما هولندا، فقد استفادت من الزراعة الذكية لزيادة الإنتاج وخفض التكاليف ، بينما نجحت دبي في تحويل الإدارة الحكومية إلى نموذج رقمي متكامل يعزز الأداء ويقلل الهدر . وتُظهر هذه النماذج أن تبني التكنولوجيا في القطاعات الحيوية يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا إذا ما تم توظيفها وفق رؤية واضحة وملائمة للبيئة المحلية .
وبالنظر إلى واقع الأردن وإمكاناته الحالية ، فإن تبنّي نماذج ذكية في إدارة بعض القطاعات الحيوية لا يبدو بعيد المنال، بل ممكنًا ضمن خطة مدروسة ومرحلية . يمكن البدء برقمنة إجراءات الجمارك والضرائب لتقليل الهدر وزيادة الكفاءة، وتطبيق أدوات ذكية في الزراعة لتعزيز الإنتاج وتقليل الكلفة ، فضلًا عن تطوير السياحة من خلال نظم رقمية ذكية . كما يمكن تحسين جودة الخدمات الصحية والتعليمية عبر منصات إلكترونية متقدمة تسهّل الوصول وترفع مستوى الخدمة . مثل هذه الخطوات، إذا نُفّذت بشكل متكامل، ستسهم في زيادة الإيرادات، ورفع كفاءة الأداء الحكومي، وتعزيز ثقة المواطن .
ومثل أي تحوّل استراتيجي، فإن الانتقال نحو الحوكمة الذكية لا يخلو من تحديات . من أبرزها الكلفة الابتدائية لتطوير البنية الرقمية، والحاجة إلى تدريب الكوادر وتأهيلها، إضافة إلى مقاومة التغيير داخل بعض المؤسسات . إلا أن هذه العقبات ليست مستعصية، بل يمكن تجاوزها من خلال تخطيط سليم، وإرادة سياسية واضحة، وشراكة جادة بين القطاعين العام والخاص . بل إن نجاح التجربة يعتمد في جزء كبير منه على قدرة الدولة على إدارة هذا التحول بطريقة تشاركية تبني الثقة وتحقق الأثر الملموس .
ويتطلب التحول نحو الإدارة الذكية مسارًا تدريجيًا واضحًا، يبدأ بمراجعة الإطار التشريعي والتنظيمي، ويمر بربط الأنظمة الرقمية بين المؤسسات الحكومية، ثم تنفيذ مشاريع تجريبية في قطاعات حيوية مثل الجمارك، والصحة، والزراعة . ويمكن إنجاز هذا التحول خلال فترة زمنية تتراوح بين خمس إلى سبع سنوات، شرط توفر الإرادة السياسية، والتنسيق الفعّال بين القطاعين العام والخاص، لضمان تنفيذ مستدام وواسع الأثر .
ومن المهم التأكيد أن تبني الإدارة الذكية لا يعني التخلي عن الخطط والاستراتيجيات الوطنية القائمة ، بل هو وسيلة لتفعيلها وتسريع إنجازها على أسس أكثر دقة وشفافية . فالتحول الذكي ليس بديلا عن الرؤى الوطنية، وإنما أداة تنفيذ حديثة تعزز فعالية السياسات العامة، وتربط الخطط بالأداء الفعلي . ورغم أن هذا التحول يتطلب كلفة تأسيسية أولية تشمل البنية الرقمية والتأهيل البشري، إلا أن العائد الاقتصادي منه يتجلى بوضوح على المدى المتوسط والطويل، من خلال تقليص الهدر وزيادة الكفاءة وتحسين جودة الخدمات . بل إن أثره على المتغيرات الاقتصادية الكلية قد يكون جوهريًا، إذ يسهم في رفع معدلات النمو، وتقليص العجز المالي، وتحسين بيئة الاستثمار ، وتعزيز الثقة بين المواطن والدولة . وهو بذلك لا يمثل ترفًا إداريًا، بل خيارًا عقلانيًا في مرحلة لم تعد تسمح بالأساليب التقليدية .
وفي الختام، فإن مستقبل الاقتصاد الأردني لن يُبنى بالاعتماد على الأدوات السابقة ذاتها، بل من خلال قفزة نوعية نحو إدارة ذكية تستثمر ما تراكم من خبرات، وتوظف ما هو متا ح من أدوات رقمية ومهارات وطنية . هذا التحول ليس ترفًا إداريًا، بل ضرورة وطنية تمليها تعقيدات المرحلة وتطلعات الأجيال القادمة . ومع توفر الإرادة، وتكاتف الجهود بين القطاعين العام والخاص، يمكن للأردن أن يعيد صياغة نموذجه الاقتصادي ليصبح أكثر مرونة، وكفاءة، واستدامة.