كبارٌ بلا فِطام .. وأفواههم لا تسكت إلا بلهاية
محمود الدباس - أبو الليث
16-06-2025 09:42 AM
في عالم الطفولة.. اللهاية مجرد أداة بسيطة.. توضع في فم الرضيع ليصمت.. لا لأنه شبع.. ولا لأنه مرتاح.. بل فقط لأنه وجد ما يملأ فراغ فمه.. ويريح غريزةً مؤقتة.. ولكن في عالم الكبار.. حين تُزرع اللهاية في أفواه مَن نسوا أن أفواههم خُلقت للكلمة.. لا للسكوت.. تصبح القضية أكبر بكثير من مطاطٍ.. وحلمة سيليكون..
هؤلاء الذين نشأوا على الأخذ دون حساب.. وتمرسوا على الصمت مقابل العطاء.. وتفننوا في امتصاص كل ما يمكن امتصاصه من الدولة.. من مالٍ.. إلى مناصب.. إلى دعوات.. أو استثناءات.. أو اعفاءات.. إلى وساطات.. هم ذاتهم الذين.. حين تسقط اللهاية.. يرتفع صراخهم.. ويعلو نعيقهم.. ويكتشفون فجأة.. أن أجهزة الدولة فاسدة.. وليس الحكومة فقط.. وأن المسؤولين عاجزون.. وأن الوطن مستباح..
وحين يصرخون.. لا يصرخون حباً في الوطن.. ولا غضباً من أجل الشعب.. بل لأن أفواههم باتت فارغة.. جافة.. تتوق إلى تلك اللهاية التي اعتادوها.. والتي إن عادت إليهم.. يعود معها صمتهم الرهيب.. بل يعود ولاؤهم المزيّف.. ومدائحهم المصطنعة.. ورسائلهم الناعمة..
هم لا يغضبون من أجل مبادئ.. ولا يثورون من أجل حقٍ مسلوب.. بل لأنهم حُرموا من الامتياز.. وخرجوا من دائرة الضوء.. وتوقف تدفق الحليب من ثدي الدولة.. ولم يحصلوا على مركز أعلى.. فصاروا يتحدثون عن الوطنية.. ويتباكون على القيم.. وهم أنفسهم مَن داسها تحت أقدامهم.. في أيام الرضا..
ترى الواحد منهم.. قد جلس في منصبه سنوات طويلة.. وبعضهم تنقل بين المناصب.. كما يتنقل الرضيع بين أحضان المربيات.. كل مرة في حضن مختلف.. لكنه دائم الرضا.. دائم الصمت.. ما دام في فمه لهاية..
المؤلم.. أن بعضهم كان يشغل مناصب رقابية.. أو إعلامية.. أو تشريعية.. اكان في المؤسسات الحكومية.. أو العسكرية.. ومع هذا لم يفتح فمه يوماً بكلمة حق واحدة.. لا حين كان في موقع القرار.. ولا حين كان يرى الفساد بعينيه.. لكنه فجأة.. وبعد تقاعده.. أو إبعاده.. تذكّر أن ثمة فساداً.. وتذكّر أن مؤسسات الدولة ينهشها الترهل.. وتذكّر أن المال العام منهوب..
وإذا ما عاد إليه شيء من المكاسب.. بأي طريقة كانت.. أو تم اعادة تعيينه في أحد المناصب.. عاد الصمت.. بل عاد ليهاجم مَن ينتقد.. ويصفهم بأنهم ناكرون للجميل.. وهو نفسه الذي عضّ اليد.. التي أطعمته ما استطاعت..
اللهاية.. ليست عيباً حين تكون في فم طفل.. لكنها مذلّة حين تكون في فم رجل.. والمصيبة أن بعضهم.. أصبح يركض خلفها في كل مكان.. يسعى لأن تعود إليه بأي شكل.. ولو على هيئة استشارة.. أو عضويةٍ شكليةٍ في أي مجلس.. أو منصبٍ لا يفقه في طبيعته شيء..
لقد انكشفوا.. للناس.. ولأنفسهم.. فكل مَن حولهم يعرف متى تكلموا.. ومتى صمتوا.. ويعرفون تماماً أن الحديث عندهم مرهون.. بحجم اللهاية.. لا بحجم القضية..
وصدق مَن قال.. إن بعض الأفواه لا تنطق إلا حين تجوع.. ولا تصمت إلا حين تُملأ.. وكذلك مَن قال.. تعلمت أن لا أتحدث وأنا في وسط السفرة.. وبين الاطباق.. أتناول الطعام..
فالفرق بين الحر والتابع.. أن الأول.. لا يعرف اللهاية أصلاً.. أما الثاني.. فيصنع من نفسه رضيعاً.. ما دام في الفم مكان لسكوتٍ بثمن..