facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




في حضرة الصمت الدولي .. قالها الأردن


د. ربا زيدان
18-06-2025 10:27 AM

ليست كل الكلمات التي تُلقى من على منابر السياسة تستحق التأمل. لكن بعضها يُحدث ما لا تستطيع القذائف أن تحققه: خلخلة الصمت. ولعل ما قيل من عمّان في قلب أوروبا لم يكن خطابًا بمفهومه التقليدي، بل مرآة أُرغمت القارة العجوز أن تنظر فيها.

حين وقف جلالة الملك عبدالله الثاني أمام البرلمان الأوروبي، لم يتحدث عن موقع بلادنا ولا عن الثقل الإقليمي الذي يحاول العالم تذكّره عند الأزمات. تجاوز جلالته تلك المداخل، ليقدّم خطابًا يُبنى على أسئلة لا إجابات: ما الذي تبقّى من قيم النظام الدولي؟ ومتى تحوّلت الإنسانية إلى موقف يُفاوض عليه؟ هذا النمط من الخطاب تجاوز العادية في الطرح الدبلوماسي المعهود ، ليس لأنه صادر عن ملك ، بل لأنه يوجّه بوصلته إلى مفهوم العدالة ذاته.

كان في نبرة الخطاب ما يشي بالقلق العميق. تشخيص هادئ لحالة من التفسخ الأخلاقي، حيث تتبدّل الحقائق بتبدّل المواقف، ويتراجع القانون تحت وطأة المصالح. لا حديث هنا عن السياسة بمعناها الضيّق، بل عن عالم يُعاد تشكيله على حساب أبسط مبادئ العدالة. في لحظة بدا فيها كل شيء قابلًا للتطويع، جاءت الكلمة لتذكرنا بأننا في عالم واحد ولو اختلفت المسميات والحدود.

جاء الخطاب في توقيت حرج، في مكان اختُبر تاريخيًا بتناقضاته. في أوروبا، التي قدّمت للعالم إرثًا من استعادة القيم الانسانيةـ، بعد دمار الحروب، لكنها تجد اليوم نفسها مترددة أمام مجازر تُرتكب في وضح النهار. لكن الخطاب لم يأتِ ليحاضر على القارة، بل ليعيد لها مرآتها. ففي كل مفردة دعوة لاستعادة الذات، لا لمجرد التعاطف الشكلي.

وعبر استدعاء تجارب تاريخية، كان جلالته يربط بين ما حدث ذات يوم في بلادهم وبين ما يُرتكب الآن بحق الفلسطينيين. ليس من باب المقارنة، بل من باب التحفيز على التذكّر: أن إعادة بناء النظام الأخلاقي ممكن فقط إذا قِسنا أنفسنا بما لا نريد أن نُصبحه.

لم يُسَمِّ جلالة الملك الأطراف، لكنه سمّى الأفعال . أشار إلى الجوع الذي يقتل الأطفال، وإلى قصف المستشفيات واستهداف الصحفيين. لم تكن هذه العبارات صادمة بقدر ما كانت دقيقة. عرضٌ واقعيٌ لصورة تُشاهد كل يوم، لكنها غالبًا ما تُقرأ بمنطق الإحصاءات لا القصص الإنسانية.. كان يتحدث من موقع غير محايد، لكنه أيضًا لا يُملي إدانة جاهزة، بل يعرض للّامعقول الذي أصبح "مقبولًا". وهذه هي بالضبط وظيفة الخطاب الأخلاقي في السياسة: لا أن يتبنّى موقفًا، بل أن يُعيد تعريف الممكن.

في خلفية الخطاب، برزت إشكالية الحياد الغربي في صراعات غير غربية، كما برزت هشاشة القانون الدولي عندما يُستثنى منه من لا يملك أدوات الضغط. وهذه ليست قضية غزة فقط، بل نمط أوسع من التفاعل مع المعاناة: حين يتحول الموت الجماعي إلى "خلاف سياسي"، ويصبح الدفاع عن المظلومين مهدِّدًا لـ"توازنات دقيقة".


لم تكن كلمات جلالته مديحًا للأردن، ولا محاولة لتأكيد دور سياسي، بل كان تذكيرًا بأن التوازن الحقيقي لا يُقاس بحجم النفوذ العسكري فقط، بل بقدرة الأطراف على قول ما يجب أن يُقال. في ميزان الفعل السياسي وهو خيار أخلاقي بامتياز.

كانت اللغة التي استخدمها جلالته محسوبة، لا دعائية ولا انفعالية. خالية من الشعارات، لكنها مليئة بالمعاني المشفّرة التي لا يخطئها المستمع المدرك. ومَن قرأ التاريخ الأوروبي، يدرك أن أخطر ما يمكن أن يحدث لأوروبا هو أن تنسى الدروس التي صاغتها من رماد الخراب. فحين لا يتعلّم النظام الدولي من كوارثه، فإنه يعيد إنتاجها، ولو في أماكن أخرى.

ولم يكن غياب فلسطين عن مركز الخطاب ممكنًا، فهي لم تحضر كجغرافيا مشتعلة فحسب، بل كرمز تاريخي وروحي وأخلاقي. فالكلمة استحضرت القدس لا كميدان صراع، بل كأرض تحمل ذاكرة الديانات الثلاث، حيث مشى المسيح، وارتفعت دعوة الإسلام، وتجذّرت رواية الإنسان عن معنى القداسة والحق. استدعاء جلالة الملك لاتفاقية عمر بن الخطاب في فتح القدس لم يكن ترفًا رمزيًا، بل تأكيدًا على أن المدينة التي صيغت هويتها التاريخية بالتسامح، لا يمكن أن تُختزل في منطق الاحتلال أو تقاسم النفوذ. لقد جاءت الإشارة إلى القدس كتذكير بأن الصراع ليس حول أرض فحسب، بل حول التاريخ نفسه، وحول مفاهيم الانسانية التي يُراد لها أن تنهار.

في لحظةٍ خفت فيها صوت العدالة، وتوارى المنطق أمام الحسابات الباردة، تقدّم الأردن، بقيادته الهادئة وموقفه الثابت، ليقول ما عجزت عنه أصوات كبرى. من عمّان، حيث تُصاغ المواقف على نار التجربة لا على ورق المؤتمرات، جاء صوت جلالة الملك عبدالله الثاني، ليعيد تشكيل المشهد الأخلاقي بخطوط واضحة. لم تكن فلسطين في كلماته مجرّد مأساة ممتدة، بل امتحان حيّ لمصداقية العالم بأسره. أما القدس، فاستُحضرت كما يليق بها: مدينة تسكنها الروح قبل الجغرافيا، وتتقاطع فيها رسالات السماء، لا خطوط النزاع.

لم يكن الخطاب الأردني ترفًا رمزيًا ولا مجاملة دبلوماسية، بل موقفًا نابعًا من تاريخ طويل من الالتزام، ومن دولة ما زالت رغم كل الضغوطات تُبقي للضمير السياسي مكانًا على طاولة القرار.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :