خطاب الملك أمام البرلمان الأوروبي .. شراكة من أجل السلام والكرامة الإنسانية
السفير الدكتور موفق العجلوني
18-06-2025 12:29 PM
في لحظة مفصلية من تاريخ المنطقة والعالم، حيث تختلط السياسة بالدم، وتتآكل القيم أمام صمت المجتمع الدولي، وقف جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله يوم امس 17 حزيران 2025، أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، ليس كمجرد زعيم عربي و مسلم، بل كصوت ضمير عالمي، يحمّل العالم مسؤولية أخلاقية عن تراجع إنسانيته أمام مشهد الحرب والمجاعة و القتل والدمار في غزة، وتوسع دائرة النار نحو إيران.
وقبل ان يصعد جلالة الملك ليطل على العالم من خلال منبر البرلمان الاوروبي، وقفت رئيسة البرلمان الأوروبي السيدة روبرتا ميتسولا لتخاطب جلالة الملك و البرلمان الأوروبي بالقول:
"إنه لشرف أن نرحب مجددًا بجلالة الملك عبدالله الثاني في البرلمان الأوروبي. هذه ليست المرة الأولى التي يخاطب فيها جلالته هذه القاعة، وفي كل مرة تترك كلماته أثرًا دائمًا في جميع من استمعوا إليها. نحن ممتنون لأن في كل مرة يمر فيها العالم بمنعطف حرج، يأتي قادة أمثال جلالة الملك لرسم طريق للمضي قدمًا نحو إنسانية مشتركة"، مشيرة إلى أن "الأردن ليس فقط صديقًا عظيمًا لهذا البرلمان، بل شريكًا مهمًا للاتحاد الأوروبي".
واضافت: "عالمنا يواجه هجومًا من إرهابيين بطموحات لا تعرف الرحمة. الدافع ليس الدين، بل السلطة. السلطة التي تُطلب بتمزيق الدول والمجتمعات عبر صراعات طائفية، وبإلحاق المعاناة في جميع أنحاء العالم. وأن صدى هذه الكلمات لا يزال يتردد حتى اليوم، في ظل تنامي التحديات المرتبطة بالتطرف."
لم تكن كلمات جلالته مجرد خطاب دبلوماسي تقليدي، بل جاءت كمرآة حادة للواقع، ومحاكمة تاريخية لنظام دولي فقد بوصلته الأخلاقية.
تحدث عن غزة، لا كأزمة سياسية، بل كجريمة يتواطأ العالم على استمرارها بالصمت؛ وعن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لا كخلاف مزمن، بل كاختبار جوهري لهوية العالم وقيمه. في المقابل، قدّم رؤية متماسكة لمستقبل أكثر عدالة، من خلال التمسك بالمبادئ لا بالسلطة، وبالقانون لا بالغلبة.
خطاب جلالة الملك في ستراسبورغ يعيد صياغة الدور الأردني كقوة عقلانية وأخلاقية في عالم تمزقه الأيديولوجيات والتطرف، ويوجه نداءً حازمًا إلى الغرب، وفي مقدمته أوروبا والولايات المتحدة، بأن الوقت قد حان لاختيار الطريق الصحيح، ليس فقط من أجل الشرق الأوسط، بل من أجل إنقاذ إنسانية العالم.
اختيار جلالة الملك عبد الله الثاني للحديث أمام البرلمان الأوروبي في هذا التوقيت الحساس يُظهر الثقة والاحترام المتبادل بين الأردن والاتحاد الأوروبي. يُعتبر هذا المنبر فرصة لجلالته للتأكيد على مواقف الأردن الثابتة في القضايا الإقليمية والدولية، وتعزيز دوره كوسيط موثوق في تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة.
الخطاب جاء في مرحلة شديدة الدقة، وسط حرب متواصلة على غزة، وتصعيد إسرائيلي إيراني، وتضاؤل الثقة العالمية بالنظام الدولي وقيمه. لذلك، كان لزامًا على جلالة الملك أن يضع أمام البرلمان الأوروبي ما يمكن وصفه بـ"مرآة أخلاقية" للعالم، ويطالب بإعادة تعريف الإنسانية من منظور القيم وليس المصالح فقط.
اعتمد جلالة الملك في خطابه أسلوب البناء التراكمي بدءًا من التوصيف، مرورًا بالمقارنة التاريخية، وصولًا إلى المحاكمة الأخلاقية والنداء للعمل، وأشار جلالته إلى أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، والعهدة العمرية، والمبادئ المؤسسة للقانون الدولي. حيث أبرزت مفارقة بين القيم التي بُني عليها النظام العالمي، وما آلت إليه الممارسات في غزة من "تطبيع الوحشية".
تضمن خطاب جلالة الملك العديد من الرسائل والمضامين السياسية وكان أبرزها:
• دعوة لإحياء الضمير العالمي، بمعنى نحن على مفترق طرق يتطلب الاختيار بين السلطة والمبدأ. وهذه دعوة للغرب لإعادة الاعتبار لمبدأ العدالة، بعد أن سقطت الأقنعة عن "الازدواجية الأخلاقية".
• محاكمة للعالم في غزة، وبمعنى إذا ما استمرت الجرافات الإسرائيلية في هدم منازل الفلسطينيين... فإنها ستهدم أيضًا الحدود الأخلاقية" . لم يكتفي جلالة الملك بالتوصيف؛ بل حمّل المجتمع الدولي مسؤولية التواطؤ بالصمت.
• توسيع دائرة التهديد، مع توسيع إسرائيل هجومها ليشمل إيران، لا يمكن معرفة أين ستنتهي حدود هذه المعركة.
• إشارة دقيقة إلى أن التهاون مع العدوان على غزة لن يتوقف هناك، بل سيتحول إلى حريق إقليمي قد يمتد عالميًا.
• أكد جلالة الملك الدور الديني والسيادي للأردن في القدس، كعنصر استقرار وقانون في وجه العبث بالهوية الدينية والسياسية للمدينة.
• حماية القدس من منطلق ديني وتاريخي: الوصاية الهاشمية... تعهدنا بحماية هويتها التاريخية متعددة الأديان.
• المفاتيح الأخلاقية والفكرية في الخطاب: الإنسانية مقابل التوحّش، والمسؤولية الأخلاقية مقابل اللامبالاة، والحق مقابل القوة، الفعل مقابل القول.
هنا يعيد جلالة الملك تشكيل اللغة السياسية بلغة قيمية تُحاكم سلوك الأنظمة وليس فقط سياساتها. من هنا استخدم جلالة الملك الذاكرة الأخلاقية الأوروبية ما بعد الحرب العالمية الثانية كأداة لتحفيز أوروبا للقيام بدورها الريادي في القيم والعدالة. وأكد على أن أمن أوروبا من أمن الشرق الأوسط، وأن القيم لا تتجزأ.
اما رئيسة البرلمان الأوروبي السيدة روبرتا ميتسولا فقد رحبت بجلالة الملك عبد الله الثاني بصفته " صوت للحكمة في منطقة مشتعلة". وأشادت بـثبات الأردن في الدفاع عن القيم الدولية، وبدوره كصوت اعتدال.
خطاب جلالة الملك أمام البرلمان الأوروبي، لم يكن مجرد موقف سياسي عابر، بل كان تدخلًا محسوبًا بدقة في لحظة اقتراب العالم من حافة انفجار إقليمي واسع بين إسرائيل وإيران، في ظل حالة انكشاف أخلاقي تعيشها السياسات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
المدير العام
* مركز فرح الدولي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية
muwaffaq@ajlouni.me