وهج المناصب يخطف الأبصار .. فمَن يبصر الأمانة؟
د. الاء طارق الضمرات
19-06-2025 08:20 PM
تغمر الأضواء المشهد في لحظات الاحتفال بالمنصب، وتُرفع الأيدي بالتصفيق، وتُنسج الكلمات من حرير المجاملة؛ يُصوَّر الإنجاز كغاية، والمكانة كاستحقاقٍ ذاتي، وكأنّ الوصول هو الخاتمة، لا مجرد البداية.
لكن قلّ من يتوقف ليتأمل: ماذا يعني أن يتقلّد الإنسان منصبًا؟
وهل كان المنصب، في جوهره، تكريمًا... أم تكليفًا؟
هل نحتفل لأننا *وصلنا*، أم لأننا *استوعبنا الأمانة* التي وُضعت على أكتافنا؟
"إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان..."الأحزاب: 72
هذه الآية ليست مجرد وصف لحادثة كونية رمزية، بل صرخة في ضمير كل إنسان تقلد مسؤولية، صغيرها أو كبيرها، إنها تذكير بأن ما حملناه – طواعية أو طموحًا – كان شيئًا عجزت عن احتماله الكائنات العظيمة، وارتجفت من ثقله الجبال الراسيات.
ومع ذلك، ما إن يجلس الإنسان على كرسي السلطة أو يُعلن اسمه في قائمة الناجحين أو المسؤولين، حتى يتوهّم أنه قد نجا من الحساب، أو أن الإنجاز يغسل غبار التقصير.
*إن المنصب لا يمنح الإنسان قيمة، بل يكشفها
فمن كان صغيرًا قبل الكرسي، لا يُكبّره الكرسي، ومن كان خفيفًا في ميزان القيم، لا تثقّله الألقاب.
المصيبة حين يُختزل المنصب في مهرجان إنجازاتٍ ظاهرية، تُقدّم للناس كأنها مفصّلة على مقاس مجد شخصي، بينما تُهمل مساحات الصمت: قرارات لم تُتخذ، حقوق لم تُحفظ، عدالة لم تُنجز، أصوات لم تُسمع.
المنصب ليس مساحة لعرض الأنا، بل ميدانٌ لاختبار الضمير.
*أيُّ بطولةٍ في أن يصفق لك الناس... إن كان صوت المظلوم لا يصلك؟*
*أيُّ إنجازٍ أن تحقّق الأرقام... إذا خلت تقاريرك من أثر الروح، من صدى المسؤولية؟*
كم من مسؤولٍ خُدعته فلاشات الإعلام، حتى نسي أن خلف مكتبه وجوائز التقدير... *توقيعًا على حمل الأمانة*، لا إعلانًا بالفوز!
الإنسان لا يُحاسَب على ما أنجز فقط، بل على ما تجاهل.
*إن القلوب الحرة، حين تتقلد المناصب، لا تحتفل كثيرًا، بل ترتجف أكثر.
تحتفل بالصمت، بالتفكّر، بالبكاء في جوف الليل:
هل كنتُ بحجم ما حملت؟
هل خففتُ وجعًا؟ هل أعدتُ حقًا؟ هل صنعتُ أثرًا... أم كنتُ مجرد واجهة؟
هكذا تُفهم المناصب: مسؤولية تهز الجبال، لا ميدالية تُعلق على الجدران.
وهكذا يكون القائد: لا بمن يصفقون له، بل بمن يدعو له من لا يعرفه، لأنه أنصفهم في صمت.
فيا من تقلدتم المناصب،احذروا أن تسكروا بضوء الإنجاز، فربما كنتم تتركون خلفكم ظلالًا من الأمانات المهدورة، وخيبات المظلومين، ونداءات المستضعفين التي لم تصلكم لأنكم كنتم منشغلين بالاحتفال.
فإن كانت السماوات والأرض والجبال قد أشفقت من حمل الأمانة، أفلا نرتجف نحن، حين نحملها؟.
*د. الاء طارق الضمرات – نائب رئيس جامعة ميدأوشن