24 ساعةً تشعل مصير الشرق الأوسط حربٌ تطحن الصخور
د. محمد خالد العزام
21-06-2025 07:51 PM
الساعات الأربع والعشرون القادمة ليست مجرد لحظات تمر على مدار الساعة؛ إنها فاصلٌ زمني ثقيل، كقطعة الرصاص قبل العاصفة، سيُحدد مسار الحرب المتأججة بين طهران منفردةً في حلبتها، وبين تل أبيب مدعومةً بثقل الغرب وأمريكا. المشهد لا يُطاق: أرضٌ ترتجف تحت وطأة الصواريخ، وسماءٌ تنفث لهيبها، وأعصابُ العالم مشدودة إلى نقطة الاشتعال.
بدأ الأمر كزلزالٍ مدوٍّ. كانت إسرائيل كالصقر الجارح، انقضت بضربة استخباراتية وتكنولوجية دقيقة كالسيف الجراحي، مزّقت خلالها النخبة القيادية الإيرانية والعلمية، وحوّلت دفاعات الأرض والسماء إلى هياكل خرسانية صمّاء. لقد سيطرت على الأجواء بجناحيها الحديديين، وكأنما الجولة الأولى ذهبت لها بسحقٍ قاسٍ، تركت طهران في دوّامة من الصدمة والغبار المتصاعد.
لكن التنين الإيراني، وإن نزف من ضربات ذلك الصقر، لم يسقط. استجمع قواه بسرعةٍ مذهلة، كالنار التي تخبو لحظات لتعود أشدّ التهابا. وبدأ ردُّ فعله كالسيل الجارف، تجاوز الحدود، ليصل إلى أعماق الكيان الإيراني المُدَّعى، مخلّفاً وراءه خسائرَ فادحةً اخترقت جدران التعتيم الإعلامي السميكة، لتُظهر للعالم وجهاً آخر للحرب، وجروحاً غائرة في جسد الخصم.
والآن، لا يهدأ لهيب المواجهة. التصعيد العسكري يتصاعد كالنار في الهشيم، مترافقاً مع زحفٍ عسكري أمريكي مرعب. سفن الحرب العملاقة (حاملات الطائرات) تُستدعى كعمالقة تستيقظ من سباتها، والمقاتلات الاستراتيجية ومزودات الوقود تتدفق كالنمل الجائع نحو القواعد الأمريكية المنتشرة في المنطقة. كل هذا الحراك العسكري الضخم يتحرك تحت سحابة من التصريحات الأمريكية المربكة، كالسِّحر الأسود الذي يهدف إلى التضليل والتهديد والخداع في آنٍ واحد. يبدو أن واشنطن تنتظر اللحظة الحاسمة، كالصياد الكامن، لتنقضّ بالضربة القاضية التي تنسب مجدها – المُفتعل – إلى نفسها، لتُرسل للعالم رسالةً لا لبس فيها: القرار الأمريكي هو السيد، لا نتنياهو ولا غيره.
وفي خضم هذا الدخان والرعد، يتكشف الهدف الحقيقي وراء هذه الحرب الضروس. لقد تبخرت حجة "منع السلاح النووي" كسراب في الصحراء، خاصةً مع شهادات رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تُنقضها. الهدف، كالثعبان الذي ينسلّ تحت الرمال، هو إسقاط النظام الإيراني ذاته، واستبداله بدميةٍ طيّعةٍ ترقص على إيقاع السياسة الأمريكية، تُعيد ترتيب المنطقة لتصبح إسرائيل القوةَ العظمى الوحيدة، المسيطرة تكنولوجياً وأمنياً، في محيطٍ آمنٍ مُجبَرٍ على التطبيع والخضوع.
والآن، تقف طهران عند مفترق طريقين وعرين، لا ثالث لهما يلوح في الأفق الضبابي. الخيار الأول: أن تتنازل عن حلمها النووي تحت سيف التهديد، باتفاقٍ ملزمٍ كالأصفاد. والخيار الثاني، الأكثر مرارةً ربما: أن تتخلى عن مشروعها التوسعي، عن حلم تصدير الثورة، أن تقطع أياديها الممتدة في المنطقة (حماس، الحوثي، الحشد الشعبي، حزب الله) قطعاً نهائياً، وأن تنحني لتُطبع العلاقات مع جيرانها العرب ومع إسرائيل نفسها، مقدمةً قيادةً براغماتيةً مستسلمةً، تتكيف مع الواقع المُفروض وتذوب في المشروع الأمريكي المرسوم للمنطقة.
لا أحد يستطيع قراءة نوايا القرار في واشنطن؛ فرياح السياسة هناك متقلبة. لكن كل المؤشرات على الأرض، من زحف القوات إلى حشود التسليح، تصرخ بأن قرار الولايات المتحدة بالدخول المباشر في هذه الحرب قد نُقش على الحجر. المسألة لم تعد سوى انتظار إشارة البدء، لحظة انطلاق الرصاصة الأولى من البندقية الأمريكية الكبرى.
المنطقة، بكل شعوبها وتاريخها المتشابك، تقف على شفا جرفٍ هارٍ. رياح التغيير الدراماتيكي العاتية قادمة لا محالة، حاملةً في ثناياها عواصف من التبعات التي لا تُحصى. وهي تتطلب، أكثر من أي وقت مضى، يقظةً كاملةً واستعداداً لا هوادة فيه، لفهم تداعيات هذه العاصفة المصيرية والتخفيف من وطأتها، قبل أن تُغرق الجميع في بحرٍ من الدمار الذي قد لا قاع له. الساعات الأربع والعشرون القادمة هي شرارة الفصل الأول من ملحمةٍ قد تُعيد رسم خريطة الشرق الأوسط إلى الأبد.