كفّو يا الشيخ "أبو إيفانكا"
محمود الدباس - أبو الليث
24-06-2025 11:49 AM
في مجالس العشائر.. هناك مشهد متكرر يعرفه أبناء البادية والمدن على السواء.. شيخٌ يجلس في صدر المجلس.. تحيط به مجموعة من الوجهاء.. وبينهم نفرٌ لا يمتّون للوجاهة بصلة.. ولا يملكون من الحكمة.. إلا ما يكفي لإشعال فتنة.. هم ليسوا أعمدة الديوان.. ولا كبار القوم.. بل هم أقرب إلى زعران الشيخ..
وظيفة هؤلاء ليست الإصلاح.. بل تنفيذ المهام الصعبة.. فإن رفض أحدهم المثول لمجلس القضاء العشائري عن طيب خاطر.. أو تعنّت في تنفيذ ما أراده الشيخ.. لم يرسل إليه مندوباً بالحكمة.. بل يرسل له الزعران.. ليضيقوا عليه في الطريق.. أو يكسّروا سيارته.. أو يرهبوا أولاده.. حتى يأتي صاغراً..
هكذا تُدار بعض العشائر في زمن الانحراف عن الأصل.. حيث تُستبدل الكلمة الطيبة.. بالعصا الثقيلة.. ويُهندس الحضور القسري.. بدل السمع الطوعي.. والنتيجة.. أن الهيبة لا تعود نابعة من الاحترام.. بل من الخوف.. وهو ما يُفقد العشيرة معناها النبيل..
لكن.. هل توقّف هذا المشهد عند حدود المجالس العشائرية؟!.. أم أن النسخة الأكبر منه.. صارت تُدار من عواصم القرار الدولي؟!..
في السياسة العالمية.. هناك شيوخ كبار.. لا يرفعون أصواتهم كثيراً.. لكنهم يديرون الجغرافيا بإيماءة من إصبعهم.. فيُفتح الحصار هنا.. وتُفجّر الحدود هناك.. وكل ذلك لا يحدث بأيديهم.. بل عبر زعرانهم الدوليين..
فهناك ميليشيات.. وهناك تنظيمات إرهابية.. وهناك أنظمة تابعة.. وهناك دول تؤدي دور العصا.. التي تُلوّح بها تلك الدولة الكبرى متى أرادت التأديب.. دون أن تُتهم مباشرة بالتدخل..
وما جرى مؤخراً في حرب الإثني عشر يوماً.. بين الكيان الصهيوني وإيران.. لم يكن استثناءً.. بل كان نموذجاً مثالياً لمشهد الزعران والشيخ الدولي..
إيران لم تنصع لشروط الدولة العظمى بشأن مشروعها النووي.. فخرج الزعران أولاً.. الكيان الصهيوني بدأ الضربات المركزة.. استهدف الدفاعات.. أربك الردود.. أجهد الخصم.. مهّد الأرض.. وفتح الأجواء.. ثم.. بعد أن أُنهكت الساحة..
دخل الشيخ "أبو إيفانكا"..
دخل كما يدخل شيخ العشيرة.. حين يريد أن يفرض الصلح.. لكنه في الحقيقة هو مَن أدار الشجار منذ البداية.. ضرب منشآت نووية بدقة.. لا تملكها إلا مَن يمتلك مفاتيح الأجواء.. ثم خرج ليعلن التهدئة.. وكأن يديه لم تتلطخا.. وكأن القرار خرج فجأة من قلب الحكمة..
ظهر الشيخ الأميركي بعباءته المعتادة.. وأعلن عن وقف النار.. واستقرار المنطقة.. واحترام القانون الدولي.. وتناسى أنه هو مَن رسم سيناريو الضرب.. والضرب المضاد.. وأدار كل شيء بخيوط لا تُرى.. لكنه كان هناك.. كما كان الزعران هناك..
إن ما يحدث في عالم السياسة.. ليس بعيداً عن منطق العشيرة حين تنحرف.. فحين تختفي القيم.. يظهر الزعران.. وحين يتضخم الشيخ.. تُغلق الأبواب أمام الكلمة.. وتُفتح أمام النار..
لكن يا ترى.. هل يبقى الشيخ شيخاً.. حين يفقد الزعران سطوتهم؟!.. وهل يستمر الحكم بالرهبة.. حين يستيقظ الناس من وهم الهيبة؟!..
ربما لا يطول ذلك اليوم.. فالتاريخ يُعلّمنا أن الزعامة القائمة على الخوف.. لا تدوم..