نهاية فصل من حرب الهيمنة الإسرائيلية
السفير الدكتور موفق العجلوني
25-06-2025 10:24 AM
في خضم تصعيد إقليمي محتدم، جاء وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، بعد الضربة الدقيقة التي استهدفت منشآت حيوية في بئر السبع، ليشكل لحظة فارقة في معادلة الصراع في الشرق الأوسط. ورغم أن القرار بدا في ظاهره توافقًا بين الطرفين، إلا أن أبعاده تكشف واقعًا مغايرًا: قرار فرض من واشنطن، وقبول إيراني مدروس، أزاح الستار عن تحولات جوهرية في توازنات القوى الإقليمية والدولية.
لطالما ارتبط الحديث عن الصراع الإيراني الإسرائيلي بمخاوف من اندلاع مواجهة نووية، غير أن هذه الجولة من التصعيد لم يكن محركها الأساسي السلاح النووي، بل السعي الإسرائيلي لفرض هيمنة إقليمية جديدة، مدفوعة برغبة الحكومة اليمينية بزعامة بنيامين نتنياهو في إعادة صياغة قواعد اللعبة الإقليمية.
تمثل الهدف الحقيقي في خلق شرق أوسط جديد، يضمن لإسرائيل تفوقًا استراتيجيًا طويل الأمد، ويُقصي الخصوم الإقليميين، وعلى رأسهم إيران. هذه الرؤية كانت مدعومة بغطاء سياسي ودبلوماسي أميركي، غير أن حسابات الميدان جاءت مغايرة تمامًا لتلك التصورات.
في المقابل، إيران لم تكتفِ بالدفاع، بل قدّمت نموذجًا متقدمًا للردع الاستراتيجي، مستفيدة من شبكتها الواسعة من التحالفات مع قوى دولية صاعدة مثل الصين وروسيا، إلى جانب باكستان ودول أخرى ترفض التفرد الأميركي والإسرائيلي بإدارة شؤون المنطقة.
الضربة التي استهدفت بئر السبع كانت ذات مغزى مزدوج: عسكري، عبر اختراق المنظومة الدفاعية الإسرائيلية، ومعنوي، يؤكد أن العمق الإسرائيلي لم يعد محصنًا. هذا التطور لم يُجبر إسرائيل فقط على مراجعة حساباتها، بل دفع الولايات المتحدة للتدخل المباشر لاحتواء الموقف قبل أن يتحول إلى مواجهة شاملة ذات أبعاد غير محسوبة.
رغم تفوقها العسكري والتكنولوجي ودعمها الأميركي غير المحدود، خرجت إسرائيل من هذه المواجهة خاسرة استراتيجيًا. لأول مرة، تَعرّت صورة إسرائيل "المنيعة" أمام الداخل الإسرائيلي والمجتمع الدولي على حد سواء.
النتائج كانت مقلقة: تآكل في ثقة الشارع الإسرائيلي بالمؤسسة العسكرية، انكشاف هشاشة العمق المدني، وزعزعة صورة الردع التي شكّلت لعقود حجر الأساس في السياسات الأمنية الإسرائيلية. أصبحت إسرائيل تُرى لا كدولة قادرة على الحسم، بل كقوة ذات بنية هشة، أقرب إلى "صندوق من الكرتون"، تبدو صلبة من الخارج، لكنها ضعيفة في الجوهر.
فرض وقف إطلاق النار من قبل الإدارة الأميركية لم يكن إنقاذًا لإيران، بل كان تحركًا استباقيًا لحماية المصالح الأميركية من الانجرار إلى حرب مفتوحة قد تؤثر على الاستقرار العالمي، وتحرج واشنطن أمام حلفائها.
جاءت التوجيهات الأميركية واضحة وصارمة: إيقاف التصعيد فورًا. ولم يكن أمام نتنياهو خيار سوى القبول، في لحظة أظهرت حدود نفوذ إسرائيل حتى على أقرب حلفائها. للمرة الأولى، تُجبر القيادة الإسرائيلية على التراجع تحت ضغط الحليف لا الخصم.
ما يلفت الانتباه في هذا السياق هو الموقف العربي المتّزن والحكيم، الذي اتسم بالعلنية والواقعية في آنٍ معًا. عدد من الدول العربية، من بينها الأردن، والمملكة العربية السعودية، ومصر وقطر والإمارات، دعت بشكل صريح إلى وقف فوري لإطلاق النار، ورفض تحويل الأراضي والأجواء العربية إلى ساحات صراع إقليمي أو دولي.
القضية الفلسطينية، وعلى رأسها قطاع غزة، كانت مركزية في الخطاب العربي خلال الأزمة، إذ ربطت العواصم العربية بين وقف التصعيد الإقليمي وبين ضرورة فتح مسار سياسي جاد لتحقيق سلام شامل وعادل يبدأ من غزة ويمتد ليشمل جميع الأراضي الفلسطينية. وفي هذا السياق لا ننسى حطاب جلالة الملك التاريخي امام البرلمان الأوروبي والذي حمل العديد من الرسائل الإنسانية.
بنفس الوقت لعبت الدول العربية، وخاصة الأردن ومصر وقطر، دورًا فعّالًا في التهدئة عبر القنوات الدبلوماسية المفتوحة مع طهران وتل أبيب وواشنطن. هذا الدور عزّز موقع العرب كقوة توازن إقليمي، تسعى لمنع الانزلاق إلى حرب شاملة، وتؤكد أن الاستقرار في المنطقة لا يمكن تحقيقه بالقوة، بل بالحوار والحلول السياسية.
ما بعد هذه الحرب ليس كما قبلها. إسرائيل التي خرجت من حرب 1973 محمّلة بجراح لكنها استعادت توازنها، تواجه اليوم ضربات معنوية وأمنية أعمق. تلاشت صورة "الجيش الذي لا يُقهر"، وتعمّقت الشكوك في قدرة القيادة السياسية على تحقيق الأمن. زاد من وطأة ذلك، فشل نتنياهو في تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب: لا بقاء سياسي مضمون، ولا استمرارية للحرب، ولا مكاسب استراتيجية.
على المستوى الدولي، باتت إسرائيل تُنظر إليها أكثر فأكثر كـ"دولة عدوانية"، تُصدّر الأزمات ولا تسعى لحلول، وتعتمد الحرب والدمار و القتل الجماعي وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية داخلية.
وقف إطلاق النار لا يُنهي الصراع، لكنه يُغلق فصلًا منه. الثابت الأهم أن قواعد اللعبة تغيّرت. إسرائيل لم تعد الطرف المطلق السيطرة، وإيران أثبتت أن لديها أوراقًا استراتيجية تُربك الخصوم وتُعيد رسم المشهد. أما الدول العربية، فقد برزت كقوة عقلانية تسعى لتثبيت الاستقرار وإعادة الاعتبار لمبدأ السلام كخيار استراتيجي.
الشرق الأوسط بعد هذه الجولة ليس هو ذاته. وإسرائيل، رغم ما تملكه من قوة، تبدو اليوم دولة أقل تأثيرًا، وأكثر عزلة، وصورةً مهزوزة تبحث عن ترميم.
لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بعد وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل هو: هل ستأخذ إيران الدرس من هذه المواجهة؟ وهل ستعيد النظر في سياساتها الإقليمية وعلاقاتها مع جيرانها من الدول العربية والإسلامية؟
لقد أثبتت هذه الجولة من التصعيد، مرةً أخرى، أن الرهان على التحالفات المؤقتة أو الصراعات بالوكالة لا يحقق الأمن القومي الحقيقي، بل يزيد من عزلة الدول ويعمّق التوترات في المنطقة. ولعلّ ما قاله بعض المسؤولين في وقتٍ سابق عن "إيران التي تسيطر على أربع عواصم عربية" لم يعد اليوم يُعدّ مكسباً استراتيجياً، بل عبئاً سياسياً وأمنياً واقتصادياً.
آن الأوان لإيران أن تدرك أن القوة الحقيقية لا تُبنى على التدخلات الإقليمية ولا على استعراض النفوذ في العواصم العربية، بل على بناء الثقة مع الجيران وتشكيل تحالفات قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. فالدول العربية والإسلامية، رغم ما يفرّقها من خلافات، ما زالت تتشارك في هموم واحدة: الأمن، والاستقرار، والتنمية، ومواجهة الأطماع الخارجية.
ربما تكون هذه المواجهة محطة لإعادة الحسابات، وفرصة لإيران لأن تمدّ يدها إلى محيطها العربي لا بوصفه ساحة نفوذ، بل شريكاً في مواجهة التحديات المشتركة، وعلى رأسها الاحتلال الإسرائيلي والانقسامات الداخلية التي تُنهك الجميع.
وفي هذا الصدد، لا بد من الإشادة بـ الاتصال الهاتفي للرئيس الإيراني السيد مسعود بزشكيان الذي اجراه مع سمو أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، حيث عبر فيه عن أسفه لاستهداف طهران قاعدة عسكرية في قطر ردا على الضربات الأميركية.
فهل تكون هذه الهدنة بداية لسلام أوسع، ( كما قال الرئيس ترامب في خطابه هذا يوم امس : أنّ إيران تستطيع الآن المضي قدمًا نحو السلام والوئام في المنطقة). أم استراحة محارب قبل جولة جديدة؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة، ولكن المؤكد أن دروس المعركة لا تكتمل إلا إذا قادت إلى مراجعة عميقة في السياسات والتحالفات.
في النهاية، يشير وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل إلى ضرورة تبني سياسة أكثر توازنًا وحكمة، ليس فقط على مستوى الصراع المباشر، بل على مستوى العلاقات الإقليمية أيضًا. إذا كانت إيران ترغب حقًا في تأمين مصالحها على المدى الطويل، فإن العودة إلى حاضنتها العربية والإسلامية يجب أن تكون الخيار الأول.
إن تجنب منطق الهيمنة والاحتلال، والتركيز على بناء تحالفات استراتيجية قائمة على التعاون المشترك، قد يعزز قدرة العالم العربي والإسلامي على مواجهة التحديات المتزايدة في المنطقة. فالحرب ليست خيارًا دائمًا، والحلول السلمية تتطلب التفاهم والاحترام المتبادل بين القوى الإقليمية.
المستقبل قد يحمل فرصة جديدة للتعاون، حيث يمكن للدول العربية والإسلامية أن تضع خلافاتها جانبًا وتتعاون في بناء قوة إقليمية واحدة، تسعى للسلام والاستقرار، وتعمل على مواجهة التهديدات المشتركة مثل الاحتلال الإسرائيلي والطموحات الإقليمية التي تؤثر على الجميع.
إذا كانت إيران فعلاً قد تعلّمت من دروس هذه المعركة، فإن هناك مساحة حقيقية لبناء جسر من الثقة والاحترام بين إيران وجيرانها. تلك خطوة يمكن أن تقود المنطقة إلى مرحلة جديدة من التعاون والتقدم، وتحقق للكل مصالح مشتركة بعيدًا عن الحروب والدمار.
إنها فرصة تاريخية قد لا تتكرر، لكن هل ستتوج إيران والدول العربية هذه الفرصة أم ستغرق في الصراعات الصغيرة التي تفرّق ولا تجمع؟ الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة