عندما يجتمع الهبل مع الدهاء
محمود الدباس - أبو الليث
28-06-2025 04:49 PM
تتحول النوايا الطيبة.. إلى أدوات تخدم نوايا خبيثة.. ويصبح البسطاء جسوراً.. يمر عليها الماكرون نحو أهدافهم..
ولأنني لا أكتب للمُغفّلين.. الذين يصدقون كل ما يلمع..
فحديثي هذا موجهٌ لغير "الهَبايل"..
ولمن لا يزال يفرّق بين النور والحريق.. فمًن استسهل بقائه في ذلك الخندق المقابل.. فلا داعي لأن يكمل..
من السهل أن تكون طيباً.. لكن من الصعب أن تبقى عاقلاً.. وأنت طيب.. فالأهبل ليس ذاك الذي خفّ عقله.. بل ذاك الذي يُفرط في حسن الظن.. يظنّ أن الناس جميعاً مثله.. يحبون الخير.. ويكرهون الخداع.. وينشرون الكلمة الطيبة.. لأنها طيبة فقط.. لا يعلم أن الدهاء.. قد يرتدي ثوب النصيحة.. وأن بعض الخير.. أُرسِل كي يُهلك.. لا كي يُنقذ..
أما الداهية.. فهو مَن لا يتنفس بلا حساب.. ومَن لا يقول كلمة.. إلا وضع خلفها خطة.. وإن سُئل عنها يوماً.. جرّك إلى الخطة البديلة.. ليقنعك أنك أنت مَن أسأت الفهم.. وأنه ما أراد إلا خيراً.. فهو لا يُكشف.. بل يكشف الآخرين إن حاولوا كشفه..
وفي زمنٍ انفجرت فيه وسائل التواصل.. كان لا بد من ساحةٍ يتقاطع فيها الهَبايل والدُهاة.. وهنا بدأت على سبيل المثال.. قصة الإعجاز العلمي المزيف في الدين.. أكان قرآن.. ام سنة نبوية.. أو حتى في العبادات.. منشورات غريبة.. مليئة بأسماء لعلماء أجانب.. ومراكز أبحاث لم يسمع بها أحد.. وصور مأخوذة من كتبٍ لا وجود لها.. وأحاديث لا أصل لها.. لكنها كانت مدهشة.. ومثيرة.. فتلقفها الهَبايل.. ونشروها فرحين.. لأنهم صدّقوها بقلوبهم قبل عقولهم.. ونسوا أن الكذب.. حتى لو نطق حقاً.. يبقى كذباً..
وهنا.. كان الداهية ينتظر.. يخرج بعد أيام.. ينفي القصة.. يفنّد الأسماء.. ينشر تكذيباً رسمياً من الجهة التي نُسب إليها الكلام.. فينكشف التلفيق.. وتنهار الثقة.. ويبدأ الشك في كل ما يُقال بعده.. حتى لو كان صحيحاً.. ويخرج من مراكز حقيقية.. فيُضرب الصدق.. بسيف الكذب الذي سُلّ من يد الأهبل نفسه..
ولم يتوقف المشهد هنا.. بل تكرر في أشد الساحات احتداماً.. في حروب الكيان الصهيوني.. سواء في غزة.. أو في الاشتباك الإيراني الأخير.. يُبث مقطعٌ مبهر.. يظهر تدميراً هائلاً في تل أبيب.. أو احتراقاً لقاعدة عسكرية.. أو قصفاً لبرج استخبارات.. ويُقال.. شاهدوا.. هذا هو الردّ المنتظر.. وهذا هو الانتصار.. فينتشر المقطع انتشار النار في هشيم الوجدان.. فيعلو الأمل.. ويرتفع النشيد.. وبنتشي الناس..
لكن بعد أيام.. وربما ساعات.. يخرج مَن أنشأ المقطع نفسه.. ويكشف أنه مفبرك.. صُنع بالذكاء الاصطناعي.. وأنه أراد فقط اختبار وعي الناس.. فماذا يحدث؟!.. تنهار المصداقية.. لا في المقطع المفبرك فقط.. بل حتى في الصور الحقيقية.. ويُصاب الناس بالشكّ في كل شيء.. حتى فيما رأوه بأعينهم.. فيبدأ الوهن.. حيث كان العزم.. ويهبط الإيمان بالنصر.. لأن الأمل بُني على كذبة.. وهكذا.. يكون النصر الحقيقي.. ضحية الدهاء المسموم.. والبساطة المفرطة..
ليس المطلوب أن نصبح جميعاً دُهاةً مراوغين.. ولا أن نتخلى عن الطيبة.. لكن.. لا بد من وعي.. يُفرّق بين الحق والبريق.. بين الحقيقة وما يُراد لها أن تبدو عليه..
فقد آن للأهبل أن يصمت ويهدأ قليلاً.. وأن يتعلم أن نشر الخير.. لا يعني التسرّع.. وآن للداهية أن يُفضَح.. حين يُلبِس الخداعَ ثوبَ الإعجاز.. أو يَصنع الوهم.. ليهدم الحقيقة..
ففي زمن المعارك المتداخلة.. والأدوات المتقلبة.. لا يكفينا أن ننوي الخير.. بل يجب أن نعرف طريقه.. قبل أن نُساق بطيبتنا.. إلى حفرةٍ.. حُفرت بدهاء..
فالفتنة اليوم لا تُشعلها مدافع.. بل تغذيها منشورات.. ومنشورٌ واحد.. قد يُدمّر ما لم تُدمّره حربٌ بأكملها..
فرفقاً بعقولكم.. قبل أن تفتحوا قلوبكم.. فالزمن الآن.. لا يرحم الهَبايل.. ولا يُمهل الدُهاة.. بل يكشفهم حين يحين الوقت.. فلا تكن هذا ولا ذاك.. كن واعياً.. تكن ناجياً..