أكاديمية أنور قرقاش والدبلوماسية الاقتصادية
السفير الدكتور موفق العجلوني
04-07-2025 01:30 AM
يشكّل حديث عطوفة الدكتور خالد الوزني حول تقرير "الدبلوماسية الاقتصادية"، الصادر عن أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية في أبوظبي و المنشور في عمون الغراء بتاريخ ٢١/٦/٢٠٢٥ ، مداخلة نوعية ومهمة في مسار إعادة تعريف العلاقة بين الاقتصاد والسياسة الخارجية، ضمن سياق عالمي متشابك تُعاد فيه صياغة أدوات النفوذ والسيادة الوطنية.
فقد تناول الدكتور الوزني التقرير بوصفه محاولة عربية رائدة تُبرز كيف يمكن توظيف الأدوات الاقتصادية لتعزيز حضور الدولة إقليميًا ودوليًا، من خلال مزيج من السياسات الاقتصادية المدروسة، والقوة الناعمة الفاعلة، في وقت باتت فيه معايير التأثير تتجاوز الأدوات التقليدية، متجهة نحو أنماط أكثر تفاعلية وابتكارًا.
تلعب الأكاديمية - " أكاديمية الامارات الدبلوماسية سابقاً " أكاديمية أنور قرقاش حالياً، تكريماً للدور الذي لعبة معالي السيد أنور قرقاش عندما كان وزير دولة للشؤون الخارجية - دورًا محوريًا ليس فقط بوصفها مركزًا لتأهيل القيادات الدبلوماسية، بل كمؤسسة فكرية متخصصة تقدم مبادرات بحثية رائدة ذات بعد استراتيجي. ويمثل التقرير، كما أشار الدكتور الوزني، ثمرة لجهد مؤسسي يُدمج ما بين التحليل الأكاديمي والتطبيق العملي، في مقاربة توازن بين المعرفة والتنفيذ، وتؤسس لنموذج معرفي تطبيقي قابل للبناء عليه عربيًا.
ويُبرز التقرير الطابع المتعدد الأبعاد للدبلوماسية الاقتصادية، بعيدًا عن المفهوم التقليدي الذي يحصرها في الترويج التجاري أو التبادل الاستثماري، ليفتح المجال أمام عناصر أكثر شمولية كالأمن الغذائي، والطاقة، والابتكار، والمساعدات الخارجية. وهو ما يُظهر فهماً معمقاً لطبيعة التحولات الجيوسياسية العالمية، ويدفع بالمنطقة العربية نحو نماذج أكثر ديناميكية واستباقية في صياغة علاقاتها الدولية، بما يعزز من مكانة الدول وفاعليتها.
ومن النقاط المركزية التي توقف عندها الدكتور الوزني في حديثه، مسألة توظيف المساعدات الخارجية الإماراتية كأداة استراتيجية ضمن منظومة الدبلوماسية الاقتصادية. فهذه المساعدات لم تعد محصورة في بعدها الإنساني، بل باتت جزءًا من هندسة النفوذ الناعم، إذ تستهدف تعزيز العلاقات الاقتصادية وبناء التحالفات، لا سيما مع دول الجنوب العالمي، خصوصًا في إفريقيا وآسيا. وقد أشار الدكتور الوزني إلى أهمية هذه الاستراتيجية، إذ تقدم نموذجًا بديلًا لتكريس المصالح عبر التعاون لا عبر الهيمنة، مؤكدًا أن المساعدات الاقتصادية يمكن أن تتحول إلى أداة نفوذ مرنة وفعّالة، إذا ما أُحسن توظيفها ضمن إطار استراتيجي شامل.
وتكتسب مداخلة الدكتور الوزني عمقًا إضافيًا حين يُنظر إلى خلفيته المهنية والفكرية الثرية، إذ شغل منصب رئيس هيئة الاستثمار الأردنية، وسبق أن تولّى مناصب قيادية محورية من بينها مستشار في الديوان الملكي الهاشمي ورئيس الفريق الاقتصادي لجلالة الملك عبدالله الثاني، ومدير عام الجمارك الأردنية ومؤسسة الضمان الاجتماعي، ورئيسا لجائزة الملك عبدالله للتميز الحكومي والشفافية في السنة الأولى لتأسيسها، فضلًا عن عمله خبيرًا اقتصاديًا لدى عدد من المؤسسات الدولية. هذه المسيرة الحافلة منحته قدرة تحليلية متميزة تمزج بين الممارسة الميدانية والفكر الاستراتيجي، ما يجعل قراءته للتقرير قراءة مرجعية تستند إلى رؤية تنفيذية وخبرة عميقة في ملفات الاستثمار والسياسات الاقتصادية والتنموية.
ويرى الدكتور الوزني أن أهمية التقرير لا تكمن فقط في محتواه، بل في كونه وثيقة تحليلية مرجعية تقدم تصورًا علميًا حول كيفية دمج الاعتبارات الاقتصادية في السياسات الخارجية، وبناء نموذج عربي متكامل للدبلوماسية الاقتصادية. فالنموذج الإماراتي، برأيه، يبرهن أن الدولة التي تُجيد استخدام أدوات الاقتصاد، والمساعدات، والقطاع الخاص، يمكن أن تعزز مكانتها الدولية بفعالية تفوق أحيانًا الوسائل العسكرية أو الأدوات التقليدية، ما يفتح المجال أمام دول المنطقة لتبني مقاربات جديدة أكثر نجاعة وفاعلية.
وفي هذا السياق، شدّد الدكتور الوزني على أهمية بناء مؤشر علمي يرصد أداء الدول في ميدان الدبلوماسية الاقتصادية، بحيث يصبح هذا المجال قابلًا للقياس والتقييم والتحسين، بدل أن يبقى حكرًا على المبادرات غير الممنهجة أو غير الموثقة. فقياس فاعلية السياسات الاقتصادية الخارجية يمكن أن يشكل أداة تخطيط حيوية لصناع القرار، ويعزز من كفاءة رسم السياسات الخارجية المرتبطة بالتنمية والاستثمار.
وبالتالي فأن مفهوم الدبلوماسية لم يعد مقصورًا على اللقاءات السياسية أو البيانات الرسمية، بل أصبح يُقاس باتفاقيات التجارة، ومؤشرات الاستثمار، والمساعدات الاقتصادية. وى أن الدول التي تطمح لتعزيز مكانتها، عليها أن تتقن فن المزج بين الاقتصاد والسياسة، في إطار شمولي متكامل. من هنا فالنموذج الذي تعرضه أكاديمية أنور قرقاش، يبدوا، ليس فقط مثالًا ناجحًا، بل هو دعوة لتبني أدوات القوة الناعمة كأداة مستقبلية لترسيخ الاستقرار وبناء الشراكات، بما يضمن للدول العربية مكانة فاعلة في النظام الدولي المتغير.
في ضوء ما تقدم، يتضح أن تعزيز الدبلوماسية الاقتصادية الأردنية لم يعد خيارًا، بل ضرورة وطنية تفرضها طبيعة النظام الدولي المتغيّر وتشابك المصالح بين الاقتصاد والسياسة. وفي هذا السياق، جاءت مداخلة عطوفة الدكتور خالد الوزني حول تقرير "الدبلوماسية الاقتصادية"، الصادر عن أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية في أبوظبي والمنشور في عمون الغراء بتاريخ (٢١/٦/٢٠٢٥ )، كمساهمة نوعية ومهمة في إعادة تعريف العلاقة بين الاقتصاد والسياسة الخارجية، ضمن سياق عالمي يُعاد فيه تشكيل أدوات النفوذ والسيادة الوطنية.
وتتسق هذه الرؤية مع التوجيهات الملكية السامية التي لطالما أكد فيها جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله أهمية تسخير أدوات السياسة الخارجية لخدمة الاقتصاد الوطني، وفتح أسواق جديدة، واستقطاب الاستثمارات، بما يعزز منعة الأردن الاقتصادية. وقد بدأت هذه التوجيهات تأخذ طابعًا مؤسسيًا واضحًا منذ تولي دولة الدكتور جعفر حسان رئاسة الحكومة، حيث برز اهتمام نوعي بتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية كأداة مركزية في العمل الحكومي، ما يعكس التزامًا عمليًا بتحويل التوجهات الملكية إلى سياسات وخطط قابلة للتنفيذ، تضع الأردن على خارطة التنافسية الإقليمية والدولية بثقة واقتدار.
* مركز فرح الدولي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية
muwaffaq@ajlouni.me