قرارات لا تمس الجوهر لكن تعيد ضبط الوعي والزمن التعليمي
د. أميرة يوسف ظاهر
04-07-2025 01:40 AM
في التربية كما في الحياة ليست القيمة في الامتلاء وإنما في الامتثال للغرض، فكثير من التفاصيل التي تبدو ثابتة في جداولنا تتحول فجأة إلى أسئلة جوهرية حين نعيد النظر: لماذا؟ لمن؟ وكيف؟ فنكتشف أننا لا نحرس الحصص وإنما نحرس الوعي.
بهذا المنطق تحديدا يمكن قراءة قرار وزارة التربية والتعليم الأخير، المتعلق بتقليص حصص مادة التربية الإسلامية من ست إلى خمس أسبوعيا، مقابل رفع حصة تاريخ الأردن من ثلاث إلى أربع، بالإضافة إلى إدراج الرقمنة كمادة دراسية بدءا من الصف الأول الأساسي. قرارات كهذه لا تقرأ بعدد الحصص فقط بل بميزان الرؤية التربوية الكامنة وراءها، والتي تطرح سؤالا جوهريا: كيف نصمم الوقت المدرسي بما يضمن تعلما منتجا ومعنى راسخا؟.
إن تقليص حصة التربية الإسلامية لا يعني بأي حال من الأحوال تقليصا لقيمتها أو مكانتها، لكنه استجابة لتغذية راجعة ميدانية دقيقة قدمها المعلمون والمشرفون تفيد بأن: عدد الحصص الحالي يتجاوز الحاجة الزمنية الفعلية لتغطية المنهاج، مما يولد فراغا أو تكرارا غير مثمر في الصف، فالغاية ليست في المزيد من الوقت ولكن في المزيد من الأثر، وما نحتاجه في مادة كالتربية الإسلامية ليس الحشو ولا الاستظهار وإنما تتحول إلى تجربة فكر وسلوك وتأمل، إلى حصة حية تعيد ربط المتعلم بقيم الدين كمنظومة حياة لا كمادة اختبار.
في المقابل فإن زيادة حصة تاريخ الأردن لم تأتِ لتزاحم مواد أخرى ولكن لتعالج ضيق الوقت في مادة ذات طبيعة تحليلية وسردية ومعرفية تحتاج إلى التأني لا الاستعجال؛ فالتاريخ ليس سردا للأحداث وإنما سردا للهوية، وهوية الدولة لا تختصر في عنوان ولا تلقن في ملخص، بل تفهم عبر تعقيداتها وسياقاتها وتحولاتها، فتمكين الطالب من فهم تاريخ بلده هو حماية مستقبلية له من العدمية والتشويش والتسطيح، وهو استثمار في الوطنية الحية لا في الشعارات العابرة.
ووسط هذا التعديل الزمني المدروس يأتي قرار تدريس الرقمنة ليعكس تحولا حقيقيا في فلسفة التعليم، لا مجرد مواكبة سطحية للعصر، إن الطفل اليوم لا يأتي إلى المدرسة ليكتشف الشاشة، فهو ولد والشاشة في كفه، وما يحتاجه فعلا هو أن يتعلم كيف يستخدم التقنية لا أن تستخدمه، كيف ينتج بها لا يستهلكها فقط؟ وكيف يحصن ذاته رقميا كما يحصن فكره أخلاقيا؟.
وهذه هي التربية الجديدة: أن يفتح أمام الطالب باب الفهم الرقمي منذ نعومة وعيه، ضمن مناهج مخصصة وبيئة تعليمية قادرة ومعلم مؤهل.
لقد تجاوزت النظم التعليمية الحديثة مرحلة قياس التعلم بعدد الساعات، لتنتقل إلى مفهوم زمن التعلم المنتج، إذ يقاس الأثر لا الامتداد الزمني، وعليه فإن تقليص ساعة لا يعني فقرا كما أن زيادتها لا تضمن غنى. فالعبرة في استثمار الزمن لا استهلاكه، وفي قدرة المعلم على تحويل أي وقت إلى واحة معرفة لا مجرد محطة لتكرار المحتوى.
إن هذه القرارات حين تقرأ ضمن إطار من الحوكمة التعليمية، فإنها تعكس شراكة فعلية بين المركز والميدان، وتدل على تحول في آلية صنع القرار من المركزية المحكمة إلى التشاركية الذكية، فصوت المعلم لم يعد ملحقا بالتوجيه بل جزءا من بنيته، وهي خطوة يجب أن تتبعها خطوات في التقييم المستمر، وفي تعزيز كفاءة المناهج، وفي تمكين الكادر من مجاراة هذه التحولات لا مقاومتها.
الطالب اليوم وقد غدا مستخدما للتقنية قبل أن يصبح قارئا للكتاب، لم يعد يرضيه التلقين في مادة الدين، ولا الحفظ في مادة التاريخ، ولا التهميش في عالم الرقمنة؛ فهو بحاجة إلى أن يرى ذاته في كل ما يدرسه: قيمه وسرده وأدوات عصره، وهذا ما يحاول أن يفعله الإصلاح التربوي الحقيقي: أن يقدم تربية لا تخاف من التغيير، لكنها لا تفرط في جوهرها.
إن كل قرار تربوي اليوم مهما بدا بسيطا، هو مفترق طرق: إما أن نكسب فيه جيلا واعيا، أو نخسر فيه ثقة المجتمع، وما نحتاجه حقا ليس أن نغلق النقاش ولكن أن نرفعه إلى مستوى يليق بوطن يراهن على أبنائه لا على حصصهم.