حين يضيع المصطلح في غُبار التمني ..
محمود الدباس - أبو الليث
05-07-2025 04:37 PM
حين تُحرّف المصطلحات عن مواضعها.. لا يضيع المعنى فقط.. بل يضيع الوعي معه..
فالكلمة حين تُنزَع من حقيقتها.. وتُزرَع في غير سياقها.. تصبح ستاراً للوهم.. بدل أن تكون دليلاً على الفهم..
ففي علم الاقتصاد مثلاً.. يفرح البعض.. حين يسمع بارتفاع معدلات النمو.. لكنهم يغفلون.. أن النمو لا يعني بالضرورة التنمية.. فقد تكبر الأرقام.. ويظل الفقر قائماً.. وتُباع الشعوب وهم الازدهار.. وهي تتقلص فيها فرص العمل.. ويعلو فيها صراخ الجوع..
وفي علم النفس.. يُبكي الخطاب الحماسي الجماهير.. ويُشعل المشاعر.. لكنه لا يُحدث تغيراً سلوكياً حقيقياً.. فالفرق كبير بين مَن يتأثر.. ومَن يتغير.. بين مَن يصفّق.. ومَن يراجع ذاته.. ويبدأ الخطوة الفعلية..
وفي علم الاجتماع.. لا يزال كثيرون يخلطون بين الهوية الظاهرة والانتماء الفعلي.. فالرموز والرايات والشعارات.. لا تعني انتماءً صادقاً.. ما لم تترجم إلى مواقف.. كما أن الشكل.. لا يصنع الجوهر.. واللباس.. لا يصنع الصدق..
أما في السياسة.. فتُرفع شعارات الشرعية الرمزية.. دون وجود أدوات الفعل.. أو التأثير.. فيريد البعض احتراماً بلا قوة.. وتأثيراً بلا أوراق.. ومكانة بلا ثمن يُدفع على الأرض..
هذا الخلط المتكرر بين المفاهيم.. لا يؤدي فقط إلى الفهم الخاطئ.. بل إلى القرارات الخاطئة.. وحين تختلط المفاهيم.. يتيه الوعي.. وتُمنح الكلمات معاني غير ما خُلقت لأجله..
ومثلما نخلط في كل هذه الحقول.. نخلط أيضاً.. بين النصر المعنوي والنصر العسكري.. بين الصمود الرمزي.. والانتصار الواقعي.. نخلط حين نرفع الراية كأننا نملك القرار.. ونبقى في الميدان.. كأن البقاء وحده نصر..
في مؤتة.. عاد الجيش منهكاً.. فاستقبله الصبية بـ"يا فُرار".. ولم يغضب النبي.. لكنه صحح المصطلح "بل الكرار".. دون أن يُلبسهم ثوب المنتصرين.. وفي حُنين.. بدأت المعركة بانكسارٍ رغم الكثرة.. ثم استعاد النبي زمامها بثباته.. لا بعددهم.. وفي أحد.. كان النبي قائداً.. ومع ذلك خسر المسلمون المعركة.. ولم تُحرّف النتيجة.. بل نزل الوحي يُحمّلهم المسؤولية.. ويُقرّ بالانكسار..
وها نحن اليوم نعيد الخطأ ذاته.. فالبعض لا يريد أن يسمع كلمة هزيمة.. وكأنها كفرٌ بالثبات.. ويخلط بين رفع الصوت.. وتحقيق الغلبة.. وبين الكَرّ اللفظي.. والفعل الميداني..
إن الأمة التي لا تملك شجاعة الاعتراف بمواقع ضعفها.. لن تمتلك أبداً القدرة على تحويل الهزيمة إلى نصر حقيقي.. فمن لا يعترف أنه فرّ.. لن يُحسن يوماً أن يكرّ..
ليس العيب أن تنهزم.. بل العيب أن تظل تصف الهزيمة نصراً.. حتى تُصدّق كذبتك.. وهنا لا تنهزم فقط.. بل تفقد بوصلتك أيضاً..
أن تقول انهزمنا في الجولة.. لا يعني أنك انهزمت في المعركة الكبرى.. بل يعني أنك تدرك موضع قدمك.. قبل أن تطير في سماء الوهم..
فإن خلط النصر المعنوي بالهزيمة الميدانية.. يُربك الوعي.. ويجعل التقييم عاطفياً.. لا واقعياً..
فمن لا يعرف الهزيمة كما هي.. لن يعرف النصر حين يأتيه.. بل قد يمرّ أمامه وهو غافل.. والتاريخ لا يرحم الذين خلطوا بين الكرّ والفرّ.. ثم كتبوا على جدران الانكسار.. شعارات النصر الزائف..