الذكاء الاصطناعي وكالة ريادية لجيل يقود لا يقاد
د. أميرة يوسف ظاهر
12-07-2025 05:50 PM
يشهد العالم تحولا جذريا في تعريف الذكاء والعمل والابتكار، ولم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تكميلية للمساعدة في تنفيذ الأوامر، لقد أصبح كيانا رقميا فاعلا يمتلك القدرة على الفهم والتخطيط والتنفيذ بشكل ذاتي. ويعد الذكاء الاصطناعي التوكيلي إعادة هندسة شاملة لمفهوم “الموظف” و”الخدمة” و”الدور الإنساني” في العملية الإنتاجية.
وهذا يعني أن جيل الشباب لم يعد مضطرا للبحث عن وظيفة تقليدية فقد أصبح بإمكانه الآن أن ينشئ مشروعا رقميا ذاتيا، يدار بالكامل من خلال وكيل ذكي يستطيع أن يفكر ويتعلم ويقرر وينفذ دون تدخل دائم من صاحبه.
وفي هذا السياق تظهر فرصة استراتيجية غير مسبوقة لتوظيف هذه التقنية في خدمة التمكين الاقتصادي والاجتماعي للشباب، فنحن أمام جيل لا يريد أن يقاد، بل يريد أن يقود؛ لا يبحث عن مكتب بل عن منصة، ولا ينتظر وظيفة بل يصنع وكالة رقمية تنجز عنه المهام وتدير له الأعمال؛ فقد أصبح من واجبنا اليوم كصناع قرار ومفكرين ورواد في الحقول التربوية والاقتصادية أن نتحول من فكرة “التشغيل” إلى فكرة “التمكين”، ومن سياسات “التوظيف” إلى هندسة فرص مبنية على الذكاء الذاتي الرقمي.
لقد أصبح بإمكان الشاب أن يطلق متجرا إلكترونيا يدار كليا من وكيل ذكي يستقبل الطلبات، ويرد على الأسئلة ويدير المخزون ويتابع الشحنات. يمكنه ايضا إنشاء منصة تعليمية تقدم محتوى مخصصا لكل متعلم، وتراقب أداءه وتقترح له مسارات تحسين دون الحاجة إلى موظفين. وكل ذلك يمكن أن يبنى بأدوات منخفضة التكلفة بل ومجانية احيانا ، باستخدام منصات مثل Notion AI، وGPT، وZapier، وغيرها من أدوات الدمج اللاكودي التي تحرر الريادة من عبء رأس المال.
ولا يقتصر الأمر على الأفكار التقنية أو التجارة الإلكترونية، إذ يمكن توظيف الذكاء التوكيلي في السياحة والخدمات الصحية والقانونية، وحتى في المشروعات الاجتماعية إذ يمكن تطوير وكلاء يقدمون استشارات قانونية أولية، أو ينظمون خططا علاجية حسب بيانات المستخدم، أو يديرون حملة توعية رقمية حول قضايا بيئية أو تربوية. وهنا تبرز قيمة مضافة فريدة: فبإمكان شاب أو شابة في الريف أو الحضر، في الجنوب أو الشمال أن يبني أنموذجا أوليا لوكالة ذكية تقدم خدمة حقيقية ويبدأ من اليوم، دون أن ينتظر تمويلا أو يتقدم لمناقصة أو يسعى لوظيفة.
هذا التحول العميق يقتضي تغييرا موازيا في السياسات العامة والمناهج التعليمية، فنحن بحاجة إلى حاضنات أعمال جديدة لا تركز على رأس المال والموظفين لكن على تمكين الشباب من تصميم وكلائهم الرقميين، ونحتاج إلى إدخال منهج “المشروع الذكي المصغر” في التعليم المهني والجامعي؛ إذ يتعلم الطالب كيف يطور حلا ذكيا بسيطا يخدم مجتمعه أو يحل مشكلة في بيئته، ويطلقه خلال أسبوع واحد فقط باستخدام الأدوات الرقمية المتاحة.
ولعل من أعمق أبعاد هذه الرؤية أنها ترسخ السيادة التقنية من القاعدة، حين يبدأ كل شاب في تدريب وكيله الرقمي على لغته وهويته وقيمه، فإننا لا ننتج مشاريع فردية فحسب، وأنما نؤسس لاقتصاد عربي رقمي نابع من الثقافة المحلية، ومبني على فهمنا نحن لاحتياجاتنا ومجتمعاتنا، لا على نماذج مستوردة.
وبهذا يصبح الذكاء الاصطناعي التوكيلي ليس فقط أداة مستقبلية بل رأسمالا جديدا للشباب العربي؛ رأسمال لا يقاس بالمال لكن بالذكاء، لا يختزن في الأبنية بل في السحاب الرقمي ولا يحتاج للواسطة بل للمبادرة، والمطلوب من مؤسساتنا أن تواكب هذا التحول لا أن تعوقه، أن تحتضن هذه الوكالات الجديدة لا أن تراقبها بريبة، وأن تطلق سياسات مرنة تتيح للشباب تطوير أدواتهم دون قيود بيروقراطية تثقل الحلم وترهق الابتكار.
لسنا بعيدين عن عالم سيقود فيه الشاب وكيله الذكي نحو سوق عالمية وهو جالس في مقهى محلي، ولسنا بعيدين عن أن تصبح وظيفة اليوم مهمة يؤديها وكيل، بينما يتفرغ الإنسان لما هو أعمق: الإبداع والقيادة وبناء المعنى.
فليكن شعارنا القادم: “أعطني فكرة وسأبرمج لها وكيلا يصنع لها سوقا”.
بهذا ننتقل من اقتصاد التبعية إلى اقتصاد الريادة، ومن مجتمعات تبحث عن فرص إلى جيل يصنعها بذكاء.