هل ننتظر إعلان التقسيم في نشرة الأخبار .. أم نستفيق قبل فوات الأوان؟! ..
محمود الدباس - أبو الليث
19-07-2025 12:07 AM
لم تكن الأحداث المتلاحقة في منطقتنا.. سوى حلقات متصلة في مسلسل طويل.. كُتب نصّه في الغرف الرمادية منذ عقود.. وأُخرج على مسارح متفرقة.. بأبطالٍ مختلفين.. لكنّ الهدف واحد.. والغاية ليست جديدة.. بل مؤجلة فقط.. حتى تنضج البيئة.. وتتهيأ الشعوب لقبول ما لم يكن مقبولاً يوماً..
فعندما نستدعي مقالة روبين رايت في صحيفة نيويورك تايمز عام 2013 بعنوان (كيف يمكن لخمس دول أن تصبح أربع عشرة).. نقرأ خريطة لا تُرسم على الورق فقط.. بل تُخَط على خطوط الانقسام الطائفي.. والإثني.. والسياسي.. الكاتبة لم تُحلّل من وحي الخيال.. بل سردت احتمالاً مدروساً لإعادة رسم الشرق الأوسط.. بطريقة تجعل من الشرق الأوسط الجديد خريطة قابلة للتطبيق.. لا مجرد شعارات لا تُنفّذ..
ولما أُعيد تداول هذا الطرح بعد عقد كامل في تموز 2023.. عبر تقرير على موقع نداء بوست.. ظهر أن الأمر لم يكن صدفة.. بل استعادة سياق سياسي مهيأ لتنفيذه.. وذلك بالتزامن مع اشتداد الانقسامات في العراق.. وسوريا.. ولبنان.. واليمن.. كأن السياق يُعاد بعناية.. لا بعشوائية..
ومن تلك القراءات الأولية.. ننتقل إلى ما وفرته مراكز بحوث مثل مؤسسة راند ومعهد الشرق الأوسط ومركز كارنيغي.. ففي دراسة أصدرتها راند بين عامي 2016 و2020.. قدّمت تصوراً لسوريا مقسمة إلى أقاليم.. إقليم درزي جنوباً.. منطقة كردية شمالاً.. ووسط خاضع لإشراف دولي.. مع مناطق سيطرة معلن عنها
.عبر وقف إطلاق النار.. والتوزيع الطائفي للإدارة المحلية..
وشرح تقرير لمعهد الشرق الأوسط في آب 2021.. كيف أن الجنوب السوري أصبح منطقة نفوذ مزدوج.. إسرائيلي روسي.. مع حراك درزي.. يُسجَّل كلعبة ذات قواعد مستقلة..
وبروح مماثلة.. عرض مركز كارنيغي في شباط 2022.. ضمن تقرير بعنوان (إلى أين تتجه سوريا؟!.. خيارات الانتقال السياسي).. فكرة الفيدرالية التعددية.. كإصلاح قد يقنّن في الواقع تقسيماً.. تحت عنوان العدالة السياسية..
فمنذ لحظة سقوط نظام بشار الأسد.. وبروز شخصية أحمد الشرع في المشهد.. كواجهة انتقالية قصيرة.. بدت سوريا.. وكأنها تتنفس دون أن تدري.. أن ما ينتظرها ليس الحرية.. بل التقسيم.. إذ لم يكن انهيار النظام.. سوى اللحظة التي فُتحت فيها كل الأبواب.. لا أمام التغيير الوطني فحسب.. بل أمام كل المشاريع الإقليمية.. والدولية.. المؤجلة.. وانطلقت القوى الكبرى.. وتحديداً الأمريكية منها.. تبحث في خرائط الواقع السوري.. عن خطوط تفصل بين العرقيات.. والطوائف.. والمذاهب.. وكأنهم كانوا ينتظرون هذا الانهيار.. ليفعلوا ما خُطّط له طويلاً خلف الكواليس..
في ذلك الوقت.. تمدد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب السوري.. بذريعة حماية حدوده.. لكنه في العمق كان يرسم خطوط تماس ونفوذ.. وجاءت الأحداث الأخيرة في السويداء.. بين بعض أبناء الطائفة الدرزية.. والقبائل السورية.. لتُذكرنا بأن الجنوب.. ليس مجرد جغرافيا.. بل خاصرة رخوة.. يسهل تمزيقها.. ما دامت الوحدة الشعبية غائبة.. ويبدو أن السويداء أُريد لها.. أن تصبح أكثر من مجرد منطقة درزية.. بل قد تُختزل مستقبلاً إلى كانتون.. أو إقليم مستقل.. إذا ما سارت السيناريوهات كما يشتهيها مَن يخططون لمستقبل سوريا.. خلف ستائر مراكز الدراسات الغربية..
أما العراق ولبنان واليمن.. فهي النماذج المجاورة.. التي تم تجريب ما يشبه هذا السيناريو فيها.. حيث أُضعفت الدولة المركزية.. وانقسم الولاء.. بين الطوائف.. والمذاهب.. والقبائل.. فصارت كل دولة مقطعة الأوصال.. لا يحكمها دستور جامع.. بل توازنات رخوة.. مبنية على الدمار.. والانقسام.. والارتهان..
المقالات التي ظهرت بعد سقوط النظام السوري.. وتلك التي خرجت من مراكز مثل راند وكارنيغي.. لم تكن تحذر من التقسيم.. بقدر ما كانت تطرحه كأمر واقع لا مفر منه.. بل صيغت بعض النماذج.. كأنها اقتراحات إصلاحية.. مثل تحويل سوريا إلى نظام فيدرالي.. يضمن حقوق الأقليات.. ويمنح الاستقرار السياسي.. كلماتٌ براقة.. تُخفي وراءها نوايا التمزيق.. وتفتح الباب لخرائط جديدة.. لا تعترف بسوريا كما عرفناها..
الخوف ليس في هذه السيناريوهات فحسب.. بل في الاستعداد الشعبي لقبولها.. أو التعايش معها.. في ظل فوضى اقتصادية.. وانهيار تعليمي.. وغموض سياسي.. وانشغال عربي بأزماته الداخلية.. فحين يتخلى العرب عن سوريا.. تصبح فريسة سهلة.. لمن يضعونها على طاولة التفاوض كملف.. لا كأمة..
إن لم نتدارك الأمر.. فإن السويداء ستتحول إلى جيب درزي.. والحسكة إلى إقليم كردي.. ودمشق إلى عاصمة خجولة بين الأقاليم.. وستُقسم سوريا -لا قدّر الله- لا على الورق فقط.. بل في الوعي والوجدان.. وتلك هي الكارثة الكبرى..
فهل نستفيق قبل أن نقرأ إعلان التقسيم في نشرة أخبار المساء؟!..