ثاني اسباب ترهّل النقل والمرور: غياب دور الجهات المسؤولة 13
د. نضال القطامين
19-07-2025 10:50 AM
اختلالات الطرق في الأردن، بجميع أنواعها ومستوياتها، باتت حقيقة يومية لا تخفى على أحد. وثّقتها في اثني عشر مقالًا سابقًا، كشفتُ فيها كيف انزلقت شبكاتنا من نظام هندسي منضبط إلى مشهد من الفوضى المرورية: من التقاطعات والدواوير، إلى الأرصفة والمعابر والمداخل والمخارج…الخ.
غير أن الخلل الأكبر، والذي لا يُقال صراحة، هو غياب الكفاءات المتخصصة التي يُفترض أن تدير هذه المنظومة، وغياب قاعدة البيانات التي تمكّنها من أداء واجبها. فلا الجامعات تخرّج ما يكفي من مختصين، ولا الوزارات والبلديات تبني هيكلًا يستوعبهم ويُحسن توظيفهم.
والنتيجة؟ قرارات مرتجلة، وإدارة تعتمد على الخبرة العامة لا العلم المتخصص. النقل وهندسة الطرق والسلامة المرورية ليست اجتهادًا ولا إجراءات روتينية، بل علم دقيق يحتاج إلى عقول مدرّبة وقواعد بيانات حيّة ومنهجيات دقيقة.
خذوا الزرقاء مثالًا. مدينة يتجاوز عدد سكانها مليوني نسمة، تحتاج وفق المعايير الدولية إلى 200 مهندس وفني متخصص، لإدارة شبكة الطرق من خلال منظومة ثلاثية:
١) "بنك عناصر الطرق":
توثيق مفصل لكل جزء من الشبكة: أطوال، تقاطعات، دواوير، ميلان، نوعية الرصف، الشواخص، الإشارات، الإنارة، أثاثا الطرق،…الخ.
٢) "بنك البيانات المرورية":
رصد حركة (التعداد المروري) المركبات بأنواعها والمشاة باستمرار، حسب النوع والاتجاه والوقت، وربطها بحركة الدخول والخروج من المدينة.
٣) "بنك حوادث الطرق":
تحليل دقيق لكروكيات وتقارير الحوادث، تصنيف كافة أنواع المواقع الخطرة، واقتراح التدخلات المستندة إلى أرقام لا تخمينات.
عندما يتوفّر المهندس المدرب القادر على تحليل هذه البيانات، تتحوّل الفوضى إلى منظومة منسجمة: حلول فورية للمشكلات العاجلة، وخطط متوسطة وطويلة المدى تضمن الاستدامة. هؤلاء المختصون، بالتعاون افقيا مع إدارة السير، قادرون على تحسين إدارة المخالفات، ورفع كفاءة المعلومات الميدانية، وإطلاق شراكات مع الإعلام والتوعية لتعزيز الثقافة المرورية في المجتمع.
والأهم؟ الحل متاح. من خلال برامج تدريب متخصصة، يمكن بناء فرق عمل فعّالة بسرعة، وتجهيزها بالأدوات والمعرفة اللازمة لإعادة رسم المشهد.
الكلفة ليست مالية بقدر ما هي إرادة تنظيمية. ففي مقابل ما نخسره يوميًا من حوادث وخسائر اقتصادية وزمن مهدور، تبدو كلفة الحل زهيدة. المعادلة واضحة: إرادة عند صاحب القرار، استثمار في العقل والبيانات، لنقل ومرور وسلامة مرورية منظمة ومجتمع أكثر أمانًا.
على وزارة الإدارة المحلية استحداث وحدة متخصصة تضع هذا النموذج موضع التنفيذ في كل البلديات، وعلى وزارة الأشغال العامة والإسكان تبنّي المنهج ذاته في كل مديرياتها، وكذلك أمانة عمّان الكبرى في كل مناطقها وسلطتا البترا والعقبة، كلٌّ حسب نطاق مسؤوليته.
ما أقدّمه هنا خلاصة مركّزة وعملية، لا تنظيرًا ولا استعراضًا. الرسالة واضحة: من دون إرادة واعية، وكفاءات علمية، وقواعد بيانات متكاملة، سنظل نراوح في مكاننا، وسينتصر الارتجال على العلم.
وللحديث بقية…..