الدبلوماسية الملكية بين اتزان التاريخ واستشراف المستقبل
السفير الدكتور موفق العجلوني
23-07-2025 09:00 AM
لا يسعني في مستهل هذا المقال إلا أن أُشيد بالإعلامي المتميز مأمون المساد، الذي تناول في مقاله المنشور في عمون الغراء يوم أمس، بعنوان "الدبلوماسية الأردنية.. بوابة العبور الآمن" واحدًا من أهم المحاور التي تمثل جوهر السياسة الأردنية المعاصرة. شهادتي في مأمون مجروحة، لا سباب لا أستطيع البًوح بها …!!! فهو من الإعلاميين الأردنيين المتميزين الذين يجمعون بين الحرفية العالية والفهم العميق لطبيعة العمل الإعلامي المطرز بالسياسة والدبلوماسية، وهو ما يجعل حضوره الصحفي دائمًا لافتًا ومؤثرًا.
لقد استوقفني مقاله لما يحمله من وضوح في الطرح، ورؤية تحليلية تعكس وعيًا مهنيًا وسياسيًا، يجسّد ما نأمله دومًا من الإعلامي الأردني المتمرس، الذي لا يكتب فقط بحبر الكلمات، بل بمعرفة تحيط بتعقيدات الجغرافيا السياسية، وتحولات الإقليم، وحنكة الدولة الأردنية في إدارتها.
وهذا ما دفعني إلى التوقف عند هذا الموضوع الهام، والتفاعل معه من زاوية أخرى تعزز ما ذهب إليه الزميل المساد، وتسليط الضوء على الدور الريادي لجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله في صياغة ملامح الدبلوماسية الأردنية المعاصرة، التي نجحت في إبقاء الأردن بلدًا آمنًا مستقراً وسط إقليم مشتعل، دون أن يتنازل عن ثوابته أو يُفرّط في مواقفه.
اتسمت الدبلوماسية الأردنية في عهد جلالة الملك في حنكة العبور الآمن وسط العواصف الإقليمية. فمنذ تأسيس الدولة الأردنية الحديثة، شكلت الدبلوماسية الأردنية ركيزة أساسية في الحفاظ على كيان الدولة ومكانتها، لكن هذه الركيزة بلغت أوج نضجها وتفرّدها في عهد جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، الذي استطاع – بحنكة سياسية متفردة – أن يُبقي الأردن بعيدًا عن شظايا الأزمات المشتعلة من حوله، دون أن يُفرّط بثوابته القومية، أو يُساوم على قيمه ومبادئه.
لقد كرّس جلالته منذ توليه العرش في أواخر تسعينيات القرن الماضي، نهجًا دبلوماسيًا قائمًا على الاعتدال، والواقعية، والتوازن، وهو ما جعل من الأردن صوتًا عقلانيًا ومسموعًا في محيطٍ يعجّ بالتقلبات والتجاذبات. فلم تكن سياسات المملكة رد فعل آنية، بل تجسيدًا لاستراتيجية متكاملة قادها الملك بعقلانية ومرونة، وأدارت الأزمات لا بانفعال، بل بحكمة تُحسب لها ألف حساب.
و قد تميزت الدبلوماسية الأردنية في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني بثلاث ركائز جوهرية:
الاعتدال السياسي والواقعية الاستراتيجية: وهو ما أهّل الأردن ليكون وسيطًا نزيهًا ومقبولًا في ملفات شائكة مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والأزمة السورية، والنزاع العراقي، دون أن ينحاز لمحور أو يستعدي آخر، فحافظ على علاقات متوازنة مع قوى إقليمية ودولية، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا.
الثبات على الثوابت القومية: لم يحِد الأردن عن موقفه الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني، ورفض التوطين والوطن البديل، وأكد مرارًا على قدسية الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، وحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني.
دبلوماسية متعددة الأطراف: من خلال المشاركة الفاعلة في الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، وغيرها، حمل الأردن صوته عبر المنابر الدولية ليطرح مبادرات إنسانية وسياسية فاعلة تجاه قضايا الإرهاب، وأزمات اللاجئين، وحروب المنطقة.
إن تنوع الأدوات التي استخدمها الأردن تحت قيادة جلالة الملك يعكس قدرة الدولة على التكيف الذكي مع المتغيرات، والتي تمثلت بالمعطيات التالية:
الدبلوماسية الوقائية: حيث عمل الأردن باستمرار على منع تفاقم النزاعات، وتطويق أية ارتدادات أمنية أو سياسية تمس استقراره.
الدبلوماسية الإنسانية: خصوصًا في استضافة اللاجئين السوريين رغم التحديات الاقتصادية الهائلة، ومواقف الدعم الثابتة في الأزمات الإنسانية في فلسطين وغزة.
الدبلوماسية الاقتصادية: التي سعت لجذب الاستثمارات، وتعزيز مكانة الأردن كمركز لوجستي وسياحي، رغم التحديات الجيوسياسية المحيطة.
القوة الناعمة: التي تمثلت في استخدام أدوات الحوار، والتعليم، والانفتاح الثقافي، والإعلام المعتدل، كوسائل لتعزيز صورة الأردن خارجيًا.
من هنا، لم يكن هذا العبور الآمن الذي يقوده جلالة الملك نزهة سهلة، بل كان نتاج توازن دقيق بين المصالح الوطنية والضغوط الدولية، وبين الثوابت القومية والمصالح الإقليمية. لقد نجح الأردن، بقيادة جلالته، في تجنيب نفسه الانخراط في الصراعات الدموية أو المحاور الإقليمية، دون أن يكون على الهامش، بل حاضرًا ومؤثرًا وصاحب رأي مسموع.
إن هذا النهج الأردني الفريد هو ما جعل من دبلوماسية المملكة بوابة عبور آمنة وسط العواصف، ونموذجًا يمكن للدول الصغيرة – في بيئات إقليمية مضطربة – أن تقتدي به. فالأردن لم يراهن على السلاح، بل على الشرعية، ولم يرفع صوته بالصخب، بل بالحكمة، ولم يسعَ للبطولات الظرفية، بل للإنجازات المستدامة.
وما زال هذا النهج الذي أرساه جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حاضراً يمثل صمّام الأمان لاستقرار المملكة ومكانتها، وركيزة أساس في حماية مستقبلها وسط إقليم لا يزال يبحث عن التوازن والاستقرار.
حمى الله الأردن وشعبة الابي الذي يسير خلف قيادته الحكيمة والتي يُشهد بدبلوماسيتها وحكمتها وعقلانيتها القاصي والداني وكل الشرفاء في هذا العالم.
مركز فرح الدولي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية
muwaffaq@ajlouni.me