عامر البشير وسقوط الاحزاب
السفير الدكتور موفق العجلوني
25-07-2025 11:37 AM
استوقفني ملياً مقال المهندس عامر البشير "سقوط حزب..2"، من خلال انه يقدّم طرحًا صريحًا وجريئًا يعيد فيه تعريف مفهوم الانتماء الحزبي من منظور أخلاقي وفكري يتجاوز الأطر الشكلية والانضباط التنظيمي الأجوف. وقد لمست انه يوجه سهام نقده ليس لمن غادر الحزب، بل لمن بقي وقد خان الفكرة، مستبدلًا القيم بالمصالح، والحوار بالمجاملة، والمبادئ بالمواقع.
و في نظرة تحليلية للمقال، رغم انني لا انتمي لاي حزب باستثناء حزب الوطن و حزب الانسان اغلى ما نملك، لاحظت ان المهندس البشير علاوة على تميزه بتفكيك المخططات العمرانية و الهندسية و الا انه يتميّز أيضاً بقدرته على تفكيك البنية النفسية والتنظيمية التي تحوّل الحزب من مشروع وطني جامع إلى أداة شخصية أو شبكية. ومن خلال لغة راقية ومعيارية، يضع وضع المهندس البشير معيارًا جديدًا للوفاء والانتماء، حيث لا يكون البقاء في الحزب دليلاً على الولاء، ولا الخروج منه خيانة بالضرورة، بل يصبح الصدق مع الذات، والتمسّك بالمعنى الأول للفكرة، هو المعيار الحقيقي.
بنفس الوقت يحاول هنا البشير الكشف عن التحوّلات التي قد تُصيب الأحزاب في لحظة ضعفها أو انغلاقها: من مؤسسات تعددية إلى منصات للتمجيد، ومن بيوت للفكر إلى غرف ضيقة مغلقة. بهذا، ينحاز الكاتب إلى المعنى لا الشكل، وإلى المشروع لا الأشخاص، في زمن اختلطت فيه الرايات بالشعارات.
ورغم العمق النقدي والفكري الذي يتمتع به المقال، يظلّ المقال أقرب إلى صرخة أخلاقية منه إلى خطة إصلاحية. وهو ما يمكن اعتباره فرصة مهدورة، خاصة في سياق أردني لا تزال فيه الأحزاب السياسية تبحث عن ثقة الناس، وتواجه حالة من النفور والتراجع والانكماش في الحضور والتأثير.
وملاحظتي على المقال القابلة للخطأ والصواب كان بالإمكان المهندس البشير ان (يهندس) المقال عبر تضمينه توجيهات عملية للإصلاح الحزبي الأردني، تنطلق من النقد الذي يطرحه، وتؤسس لأرضية جديدة أكثر التزامًا بقيم الشفافية والتعددية والمشاركة. ومن أبرز ما كان يمكن تضمينه:
- الدعوة لإصلاح آليات الديمقراطية الداخلية، بحيث تُتاح فرص التغيير وتداول القيادة، وتُمنح العضوية الحزبية وزنًا فعليًا في صنع القرار، لا أن تبقى مجرّد أداة تزكية لمن هم في القمة!
- التحذير من ظاهرة التمركز الشخصي داخل الأحزاب، واقتراح خطوات لمأسسة العمل الحزبي بما يحميه من الشخصنة والاحتواء الفوقي.
- التأكيد على ضرورة الانفتاح على المجتمع، وربط العمل الحزبي بقضايا المواطن الحقيقية، حتى لا يبقى الحزب مشروعًا نخبويًا أو تنظيميًا مغلقًا بعيدًا عن هموم الناس.
- التحفيز على إشراك الشباب والنساء في القيادة، لا من باب الزينة التجميلية، بل باعتبارهم شركاء في صناعة القرار وقيادة التحوّل.
- اقتراح آليات نقد داخلي مؤسسي يتيح للأعضاء التعبير عن آرائهم دون خشية أو إقصاء، بما يضمن بقاء الحزب في حالة مراجعة دائمة لا تمجيد دائم.
لا يمكن إنكار عمق المقال وصدق الكاتب المهندس البشير وتاريخه العريق وعائلته الوطنية المخلصة صاحبة التضحيات الكبيرة المحفورة في عقول وقلوب الأردنيين، وخاصة والدته الفاضلة السيدة هيفاء الشير والمرحوم والده معالي الشهيد محمد البشير. فهو يعبّر عن تجربة شخصية مريرة ومؤلمة في الانتماء الحزبي. ولكنه برأي يحتاج أن يتحوّل من مساحة للعتب والمراجعة، إلى أداة للتصحيح والبناء. فالمشهد الحزبي في الأردن لا يفتقر للنقد، بل يفتقر للبرامج والرؤى الجريئة القادرة على إخراج الأحزاب من أزماتها الداخلية، وتحويلها إلى مؤسسات صاحبة برامج وطنية تؤمن بالحوار، وتعيش قيمها، وتحترم جمهورها، وتقدّم نموذجًا مختلفًا عمّا اعتاده الناس وملوه.
الصدق مع الذات، الذي يدعو إليه المهندس البشير، يجب أن يُترجم أيضًا إلى صدق مع واقع المواطن الأردني، بطرح خطوات عملية تقود إلى أحزاب حية، أخلاقية، ديمقراطية، تملك الشجاعة لتصحيح مسارها بنفسها، قبل أن تسقط بفعل ذاتها.
يبقى حديث المهندس البشير "سقوط حزب.." شهادة حية على أن النقد الصادق يمكن أن يكون أكثر وفاءً من البقاء الصامت، وأكثر التزامًا من الانتماء الشكلي. لقد نجح المهندس عامر محمد البشير البشير بلغة راقية ونفس شفافة من خلال تجربته الشخصية مع الاحزاب أن يحرّك مياه العمل الحزبي الراكدة، وينبّه إلى التحوّلات الخطرة التي قد تصيب الأحزاب حين تُختزل الفكرة في الأشخاص، والمبدأ في المصلحة.
وإن كنا نطمح أن يمتد هذا الخطاب من التشخيص إلى الاقتراح، ومن الألم إلى البناء، فإن حديث البشير لا يفقد في عمقه قيمته؛ بل يفتح نافذة نادرة في الخطاب السياسي الأردني، تستحق التأمل والتقدير. ففي زمن الشكليات، نحتاج لمثل هذه الأصوات التي تذكّرنا بأن الوفاء للفكرة أسمى من أي موقع، وأن الإصلاح الحقيقي يبدأ من شجاعة النظر في المرآة.
ولعلّها دعوة ضمنية لأن تكون الأحزاب في الأردن أكثر انفتاحًا، وأكثر استعدادًا لاستيعاب النقد كفرصة، لا كتهديد، لأن الأوطان كما الأفكار النبيلة لا تُبنى إلا بالحوار، ولا تزدهر إلا حين تسبق المبادئ المواقع.
واختم حديثي بقوله تعالى في سورة هود الاية ١٧: " أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ۚ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ ۚ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ."
*مركز فرح الدولي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية
muwaffaq@ajlouni.me