خشية وقوع المجلس الأعلى للسلامة المرورية بين الصورة والتطبيق 15
د. نضال القطامين
26-07-2025 11:38 AM
تناولنا في مقالات سابقة واقع منظومة النقل والمرور والسلامة المرورية في الأردن، وما تعانيه من اختلالات بنيوية مزمنة لم تعد خافية على أحد.
اختلالات لا تعود إلى شُح في الموارد، بل إلى غياب التخصص، وتلاشي أدوات المساءلة، وافتقار الإدارة إلى منهج مؤسسي علمي واضح.
لقد تحوّلت هذه المنظومة، للأسف، من رافعة وطنية للنمو والخدمة إلى عبءٍ يومي يُثقل كاهل الدولة والمواطن، وسط تشظّي الصلاحيات بين وزارات وبلديات وهيئات تنظيم، يعمل كلٌّ منها في معزل عن الآخر.
فغياب التنسيق الأفقي بين الجهات المعنية، وضعف التنسيق العمودي داخل كل مؤسسة، لم يعد مجرد خلل إداري، بل بات جوهر المشكلة التي تعيق أي محاولة إصلاح جادة ومستدامة.
وتنعكس هذه الأزمة بوضوح في ملف السلامة المرورية، الذي يُفترض أن يكون عنوانًا للتكامل والوقاية، لا مرآة للارتباك المؤسسي.
في هذا السياق، جاء إنشاء المجلس الأعلى للسلامة المرورية كمبادرة حكومية تهدف إلى توحيد الجهود الوطنية وضمان قيادة موحّدة لمنظومة السلامة.
ولا شك أن إنشاء هذا المجلس يُمثّل فكرة مهمة من حيث المبدأ. لكن أي مؤسسة، مهما حسنت فكرتها، لا تُقاس بأهدافها المعلنة بل بقدرتها على التأثير الفعلي في الميدان.
فالتمثيل الوزاري أو المؤسسي في المجلس لن يُنتج أثرًا ملموسًا ما لم يكن الممثلون قادرين على تفعيل ما يصدر عن المجلس داخل وزاراتهم ومؤسساتهم بشكل عمودي وعملي.
فكيف يمكن أن نفهم أن كل الاختلالات التي رصدناها في المقالات السابقة - من تقاطعات خطرة، وشوارع مهترئة، وإشارات غائبة، وغياب البنية التحتية للمشاة، وانعدام قاعدة البيانات والمتخصصين - لم تنعكس إلى الآن في خطة تنفيذية واحدة داخل أي مديرية أشغال أو بلدية أو منطقة تابعة لأمانة عمّان؟
بعد أكثر من عامين على تأسيس المجلس، لا نملك اليوم سجلًا هندسيًا واضحًا يبيّن ما هي التوصيات التي استلمتها كل جهة؟ كيف حللتها؟ من نفذها؟ وبأي معايير؟
لا نقول ذلك على سبيل الإحراج، بل لتوجيه السؤال الجوهري للمجلس نفسه: هل بُني التمثيل داخل المجلس على الكفاءة الفنية؟ وهل يمتلك الأعضاء الصلاحية والتخصص والقدرة على قيادة التغيير داخل مؤسساتهم؟
فالسلامة المرورية ليست مسألة رمزية أو شكلية، بل منظومة تحتاج إلى فهم دقيق، وتخصص هندسي، وآليات متابعة، ومساءلة.
وما يُتداول من بيانات - مثل “معالجة 56 نقطة سوداء” - يعكس فهمًا سطحيًا لطبيعة المشكلة.
فالنقطة السوداء ليست رقمًا يُعدّ، بل موقع تتكرّر فيه الحوادث نتيجة لخلل مركب في الهندسة أو السلوك أو البيئة المرورية.
وفي طريق واحد بطول 10 كيلومترات، قد نجد عشرات النقاط الخطرة: تقاطعات بلا حماية، منعطفات ضيقة، معابر مشاة غير مؤمنة، أسطح مهترئة، أو إشارات شبه غائبة،…الخ.
المشكلة لا تُقاس بعدد، بل بمنهج علمي في التحليل والمعالجة. فأي تشخيص محترف يستدعي توفر قاعدة بيانات دقيقة، كوادر مؤهلة، وأدلة تصميم وهندسة مرورية ملزمة.
وفي النماذج الدولية الرائدة، كما في بريطانيا وهولندا، تُصنَّف “النقطة السوداء” بناءً على:
عدد الحوادث، ونوعها، وتكرارها، وحدة الإصابات، والسياق البيئي والهندسي والبشري خلال فترة زمنية محددة.
وبالتالي، فإن العدد الحقيقي للنقاط الخطرة في الأردن، إذا خضع لتحليل منهجي دقيق، سيتجاوز الآلاف لا العشرات، مما يكشف عن فجوة خطيرة في الرصد والمعالجة.
وهنا تبرز الأسئلة الجوهرية:
١) هل يمتلك المجلس فعليا تصورًا دقيقًا لحجم المشكلة، من البنية التحتية إلى المركبة ومستخدم الطريق؟
٢) هل لديه قاعدة بيانات شاملة ومحدثة؟
٣) هل تم تشخيص فجوة الكفاءات الفنية في البلديات، ومديريات الأشغال، وأمانة عمّان؟
٤) هل وُضعت أدلة تصميم وطنية ملزمة؟ وهل وُحدت أدوات الرقابة والتحليل؟
٥) هل يُصدر تقارير أداء دورية تُقيّم التقدم وترصد الفجوات؟
٦) والأهم: هل يمتلك المجلس صلاحيات الإلزام والمتابعة؟ أم أنه يكتفي بالمراقبة من بعيد؟
في الدول المتقدمة، تُدار السلامة المرورية كمنظومة متكاملة، تبدأ من تخطيط الطريق، وتشمل المركبة والسائق والمشاة، وتمتد إلى التعليم والإعلام والمجالس المحلية.
وتقودها هيئة دائمة، بصلاحيات تنفيذية، وفرق فنية، وآليات مساءلة، وتنسيق مباشر مع صانع القرار.
فإذا أردنا للمجلس الأعلى للسلامة المرورية أن يتحول من إطار تنظيمي إلى جهة قيادية فاعلة، فذلك يتطلب:
١) إعادة تعريف صلاحياته ليقود، لا أن يراقب فقط.
٢) تشكيل فرق عمل متخصصة ومتفرغة تُشرف على التشخيص، والتحليل، والمتابعة الميدانية.
٣) ربطه مباشرة بهرم القرار التنفيذي والتشريعي لضمان التطبيق الفعلي لمخرجاته.
٤) وضع معايير وطنية إلزامية للسلامة المرورية تشمل البنية التحتية، المركبات، التعليم، والتوعية، وتُربط بمؤشرات أداء قابلة للقياس والمحاسبة.
وهنا بيت القصيد: على الجهات الوطنية، وفي مقدمتها المجلس الأعلى، أن تُحدّد بدقة الكفاءات، والمسؤوليات، والمعايير، والموارد، التي يجب أن تتوفر في كل جهة فاعلة في هذا القطاع، ثم تراقب التزامها بها بشكل دوري ومنهجي، لا موسمي أو شكلي، تمامًا كما يُراقب المال العام في ديوان المحاسبة.
لسنا بحاجة إلى اختراع عجلة جديدة، بل إلى من يُحسن إدارتها بثقة ومهنية.
نحتاج إلى مجلس لا يكتفي بالتوصيات، بل يفرض المعايير، ويقود التنسيق، ويُحاسب على الأداء. نحتاج إلى من يعلّق الجرس بصوت واضح:
أن الطريق، والمركبة، والإنسان… لا ينجون فرادى، بل ينجون جميعًا أو يسقطون جميعًا….