facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الأردن والاختراق الإنساني


د. محمود الشغنوبي
26-07-2025 11:57 AM

ليس سرًا أن الأردن يدرك حجمه في ميزان الجغرافيا، ولا ينكر محدودية موارده، ولا يُغالط نفسه حين يتعلق الأمر بموازين القوى في الإقليم. لكنه، في المقابل، يعي تمامًا حجم دوره، ووزن تأثيره، وقوة انتمائه للإنسان، وللقضية، وللشعوب التي ما تزال تحت رمادها جمرة من كرامة لم تُطفأ. الأردن لا يدّعي ما ليس له، لكنه لا يتنازل عمّا هو له: الإرث، والموقف، والالتزام الأخلاقي. ومن هذا الإدراك العميق ينهض الموقف الأردني، لا ليزايد ولا ليفاوض، بل ليقوم بما يراه واجبًا لا يخضع لمساومة.

حين تدخل المساعدات الأردنية إلى غزة، أو تُرسَل إلى أي بقعة نازفة من هذه الأمة، فهي لا تدخل مدفوعة برغبة في اختراق أمني، ولا ملوّثة بنوايا مخابراتية، بل تدخل كرسالة واضحة: هذا ما يفعله الشقيق عندما يشتد الألم، وهذا ما يقدمه الأردن عندما تُغلَق الأبواب ويضيق الأفق. لا يمارس الأردن مهنة «الإنقاذ المشروط»، ولا يبتز جراح الناس، بل يعبر إليهم بما يملكه، لا بما يفرضه، وكثيرًا ما كان ما يملكه أقل مما يحتاجه، ومع ذلك يقدّمه دون منّة أو انتظار شكر.

حتى وإن كانت الشاحنات التي دخلت قليلة أو كثيرة، إلا أنها وصلت. وهذه وحدها تكفي لتمنح الموقف الأردني شرعيته الأخلاقية. فالمسألة ليست في الأرقام، بل في العزيمة. ليست في عدد الصناديق، بل في أن أحدًا ما قرر ألّا يترك الجرح بلا ماء، وألا يكتفي بالمشاهدة من بعيد. وصول القوافل، ولو وسط العتمة والخذلان، هو بحد ذاته انتصار. لأن ما يُقاس هنا ليس حجم المساعدات بل معنى أن تصل، أن تُكسر الحدود، أن يتقدّم الأردنيون في لحظة يتراجع فيها غيرهم.

يرى الأردن نفسه في مرآة الشعب الفلسطيني. ليس فقط لأن الجغرافيا متداخلة، ولا لأن الحدود مفتوحة للتاريخ والمصير، بل لأن القضية الفلسطينية متجذرة في ضمير الدولة الأردنية، من القيادة إلى الشارع، ومن الموقف الرسمي إلى الوجدان الشعبي. لم يتعامل الأردن مع الفلسطيني بوصفه ملفًا إقليميًا، ولا كعبء سياسي، بل كأخ تُنتهك كرامته كل يوم، وتُختبر صلابته كل ساعة. ولذا فإن العلاقة بين الضفتين لم تكن يومًا علاقة مجاملة أو موسم سياسي، بل علاقة دم، وهوية، وألم واحد لا يعرف الحدود.

وفي الوقت الذي اختار فيه بعض الأشقاء الوقوف على التل، ينتظرون تبدّل الموازين ليميلوا معها، اختار الأردن أن يظل منحازًا للضحية. لم يغلق معبرًا، ولم يمنع إسعافًا، ولم يقايض شريانًا مقابل توقيع. بل كانت قوافله تخرج بصمت، وتصل بهدوء، حاملةً معها رسالة أن الشقيق لا يُقاس بحجمه بل بموقفه، وأن الدولة لا تُقاس بمساحتها بل بثقلها الأخلاقي.

هذا الاختراق الإنساني الأردني يُربك البعض، لأنه غير قابل للفهم من داخل عقلية المحاور والمقايضات. هم لا يستطيعون استيعاب أن دولة صغيرة الموارد، محاطة بالأزمات، مثقلة بالتحديات، ما تزال قادرة على أداء دور نقيّ، غير مرتهن، لا يبحث عن كاميرا، ولا يركض خلف مكاسب آنية. لكنها، وعلى الرغم من ذلك، تظل تقاتل من أجل أن يكون صوت الإنسان مسموعًا، وصورته غير مهانة، وكرامته محفوظة ولو في أقسى الظروف.

وحين تُغلق الطرق، يُبدع الأردن في شق مسارات جديدة. وحين تُحاصر غزة، يتحايل الأردن على الحصار بلا ضجيج. يدخل الطبابة حين يُمنع الدواء، ويدخل الطحين حين يُصادر الخبز، ويدخل الكرامة حين تُغتال الأرواح على مرأى العالم. لم ينتظر الإذن ممن يملكون القرار، لأنه يعرف أن الشرعية الوحيدة التي يعترف بها هي شرعية الموقف، لا شرعية الفيتو، ولا دهاليز التنسيق الأمني، ولا مصالح الجيوب السوداء في غرف السياسة.

الأردن لا ينكر واقعه، لكنه يرفض أن يكون رهينًا له. يعرف أن موقعه الجغرافي لا يمنحه القوة العسكرية، لكنه يملك ما هو أقوى: الموقف، والانتماء، والقدرة على اختراق المعادلات بأخلاقياته، لا بترساناته. وهذا ما يجعل حضوره رغم محدوديته يبدو أكبر من مساحته، وأعمق من توقعات خصومه، وأقرب للناس من كل أصحاب الصفقات.

الاختراق الأردني ليس في عدد الطائرات، ولا حجم المساعدات، بل في معناها. في الرسالة التي ترافق كل وجبة، وكل ضمادة، وكل صوت يقول من خلف الحدود: نحن معكم، لا نطلب منكم شيئًا، ولا نريد مقابلًا. أنتم امتدادنا، ونحن امتدادكم. أنتم أوجاعنا، ونحن بعض صبركم.

لهذا تحديدًا، يزعج هذا الدور الأردني من لا يريد لهذه الأمة أن تتعافى. لأنه يعيد تعريف العلاقة بين الدول والشعوب، لأنه يُحيي ما أرادوا له أن يموت: الضمير، والمروءة، والروابط التي لا يمكن شراؤها أو تهريبها أو تطويعها. فالأردن، في كل اختراق إنساني يقوم به، لا يمدّ يده ليأخذ، بل ليعطي. لا يُفاوض على الجرح، بل يسنده. لا يدخل ليكون بديلًا، بل شقيقًا. ولأنه كذلك، فإن حضوره يربك اللاعبين الكبار، لأنهم لا يستطيعون فهمه أو احتوائه.

في زمنٍ تاهت فيه البوصلة، وباتت المواقف تُشترى وتُباع، يظل الأردن على عهده. يمارس إنسانيته بلا شروط، ويُصرّ على أن يكون مختلفًا، حتى لو كلّفه ذلك غضب الكبار، أو ضغط المانحين، أو تجاهل الإعلام. ففي النهاية، لا يهم كيف تُنقل صورته إلى الشاشات، بل كيف تنطبع صورته في قلوب الشعوب.
وسلامتكم.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :