المجلس الأعلى للسلامة المرورية وضحايا حوادث سير الصروح العلمية 16
د. نضال القطامين
27-07-2025 01:20 PM
مع اقتراب العام الدراسي الجديد، تستعد المدارس والجامعات لاستقبال مئات الآلاف من الطلبة، وتعود معها الحركة المرورية الكثيفة في محيط هذه المؤسسات التعليمية. إلا أن واقع البيئة المرورية المحيطة بها ما زال يشكّل خطرًا جسيمًا على سلامة الطلبة، ويجعل من حوادث السير – الكاملة أو شبه الحوادث – إحدى أبرز التحديات التي تهدد مسار التعليم الآمن في المملكة.
في مختلف محافظات المملكة، تُرصد مشاهد متكررة لا تتوافق مع أبسط معايير السلامة المرورية: أرصفة متهالكة أو غائبة، ممرات مشاة غير مرئية أو غير موجودة، مظلات غائبة، وقارمات إرشادية مفقودة، ومواقف تحميل وتنزيل فوضوية تفتقر لأدنى تنظيم.
وفي المدارس الخاصة تحديدًا، تتفاقم الأزمة بفعل اكتظاظ المركبات الخاصة بالأهالي في أوقات الذروة، دون وجود خطة مرورية بديلة تخفف الازدحامات وتنظم الحركة وتقلّل الاحتكاك بين المشاة والمركبات.
الطلبة، صغارًا وكبارًا، يُجبرون يوميًا على المناورة بين السيارات بحثًا عن طريق آمن إلى بوابة المدرسة أو الجامعة، دون حماية مادية أو توجيه مروري.
وهذا الواقع اليومي يُنتج ليس فقط الحوادث المسجلة، بل أيضًا فئة واسعة من “شبه الحوادث” التي لا تُوثق رسميًا رغم أثرها الخطير.
ويقصد بـ”شبه الحوادث” تلك الحالات التي يُضطر فيها السائق – خصوصًا في باصات الطلبة وكذلك في المركبات – إلى استخدام الكبح الشديد (brake force) لتفادي الاصطدام، مما يُسفر عن إصابات داخل المركبة تتراوح بين بسيطة ومتوسطة وبليغة، خصوصًا بين الطلبة غير المحميين بأحزمة أمان. وتشير التقديرات الميدانية إلى أن ما يزيد عن 30٪ من هذه الإصابات لا تُدرج ضمن الكروكيات أو سجلات السير الرسمية، مما يُضعف من دقة التحليل الاستراتيجي لواقع السلامة.
وهنا، فإن كل حادث أو شبه حادث يرتبط ببيئة مؤسسة تعليمية – سواء داخل الباصات أو في محيط الطريق – يجب أن يكون محل تحليل دقيق من قبل وزارة التربية والتعليم، وزارة التعليم العالي، والمجلس الأعلى للسلامة المرورية. ويجب تحديد الأسباب ومواقع القصور وتحميل المسؤولية كاملة في حال ثبت أن الخلل الهندسي أو التنظيمي كان هو السبب.
ويُعد غياب أحزمة الأمان داخل الحافلات المدرسية والجامعية، وسوء تنظيم أماكن التحميل والتنزيل، وغياب رقابة فعالة على سائقي تلك الحافلات من أبرز نقاط الضعف البنيوية في منظومة النقل التعليمي. تجاهل هذه العوامل لا يُبقي الخطر قائمًا فحسب، بل يُبقي المسؤولية ضائعة وموزعة دون محاسبة واضحة.
هذا الواقع يتطلب تدخلًا مؤسسيًا مباشرًا وتنظيمًا أفقيًا فعالًا، يبدأ بإنشاء دائرة فنية متخصصة بالسلامة المرورية ضمن هيكل وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي، وتكون مسؤولة عن:
1. إنشاء قاعدة بيانات دقيقة وشاملة للحوادث وشبه الحوادث المرتبطة بالطلبة.
2. إعداد كروكيات (بالتعاون مع الامن العام) مرورية دقيقة وتحليل واقع الطرق والمرافق المحيطة بالمؤسسات التعليمية.
3. فرض مستوى السلامة المرورية كأحد معايير الترخيص والتصنيف للمدارس والجامعات.
4. تطوير نظام رقابي موثوق لتسجيل الحافلات وسائقيها، وضمان كفاءتهم والتزامهم بالتعليمات.
5. إعداد خطة وطنية لتأهيل وتطوير محيط المؤسسات التعليمية هندسيًا وتنظيميًا.
أما المجلس الأعلى للسلامة المرورية، فمسؤوليته لم تعد تقف عند حدود التنسيق العام، بل يجب أن يمارس دورًا قياديًا بسلطة تنفيذية تُصدر تعليمات واضحة ملزمة، تستند إلى مؤشرات أداء قابلة للقياس، وتُطبّق بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة دون تأجيل أو استثناء.
وفي المقابل، فإن ممارسات الدول المتقدمة تؤكد أن ما نعتبره في الأردن “تفصيلًا إداريًا” هو هناك شرط ترخيصي صارم.
ففي المملكة المتحدة، يُمنع افتتاح مدرسة دون أن تكون محاطة بممرات مشاة آمنة، وتقاطعات محمية، وإشارات واضحة، ومناطق تحميل وتنزيل مصممة هندسيًا. أما في الولايات المتحدة، فإن أدلة التصميم (مثل AASHTO) تصنّف المدارس والجامعات كمناطق ذات خطر مروري عالٍ (High-Risk Zones)، ويُخصص لها تصميم خاص يعالج كل مكوّن من مكونات الطريق والبيئة المحيطة، بما في ذلك السرعات المسموح بها، أولوية العبور، الرقابة على السائقين، وضمان وجود أحزمة أمان لجميع الركاب في الحافلات.
ومع بقاء فترة محدودة قبل بدء العام الدراسي الجديد، فإن الأسابيع القادمة تُعد فرصة عملية يجب استثمارها فورًا لتنفيذ التدخلات الفورية، وتجهيز البيئة المحيطة، وتنظيم الحركة، وتشبيك الجهات الفنية، وتفعيل الرقابة على وسائط النقل، ووضع التعليمات التنفيذية موضع التطبيق.
إن كل حادث، وكل إصابة، وكل شبه حادث يقع حول صرح تعليمي، هو مؤشر على خلل لم يُعالَج بعد، ومسؤولية لم تُحمَّل بعد، وخطة لم تُنفَّذ بعد.
وإذا لم يصل الطالب سالمًا، فلن تُجدي مناهج ولا تُصلح حصص.
وإن كان الطريق إلى العلم محفوفًا بالخطر، فإن العلم نفسه يصبح بلا جدوى…