تأخّر مشروع صرف صحي الجنيد ينذر بكارثة بيئية !
د. ثابت المومني
29-07-2025 10:42 PM
بدايةً، لا يسعني إلا أن أقول، إنه ليس منا من يُنكر أن هناك جهودًا بُذلت وتُبذل لأجل إنجاز مشروع الصرف الصحي في الجنيد.
ففي قلب المرتفعات الشمالية من الأردن، وعلى مشارف غابات البلوط والسنديان، تقع منطقة الجنيد التي تضم بلدات صخرة وعبين وعبلين.
هذه المنطقة ليست مجرد تجمع سكاني، بل تُعدّ رئة خضراء، ومصدرًا استراتيجيًا للتغذية المائية.
الجنيد معبرٌ سياحيّ حيوي يربط شمال المملكة بوسطها وشرقها، كما أنها من أغزر مناطق الأردن مطرًا، بارتفاع يزيد عن 1150 مترًا فوق سطح البحر، مما يجعلها مصدرًا رئيسيًا لتغذية الطبقات الجوفية في النعيمة وشمال جرش وغرب المفرق.
الطبيعة الجيولوجية الكارستية للمنطقة، والمكوّنة من صخور جيرية عالية النفاذية، تُحوّل أي تسرّب سطحي كمياه الحفر الامتصاصية للمنازل إلى خطرٍ مباشر على المياه الجوفية.
وهنا يكمن جوهر الكارثة المرتقبة في منطقة بهذه الأهمية البيئية، وبهذه الحساسية الجيولوجية.
يقطن في الجنيد اليوم أكثر من 70 ألف نسمة مقيمًا، يتضاعف العدد نهارًا في المواسم السياحية.
ورغم هذا التوسع الحضري والسياحي، ما زالت المنطقة تعتمد على حفر امتصاصية بدائية تتسرّب يوميًا إلى باطن الأرض، مسبّبة تلوثًا صامتًا... لكنه مميت.
الجنيد لم تعد منطقة ريفية معزولة، بل أصبحت مركزًا حضريًا نشطًا، ومقصدًا سياحيًا متناميًا.
ومع هذا النمو السريع في الكثافة السكانية والبناء والتوسع، فإن الضغط على التربة والمياه والبنية التحتية بلغ مستويات حرجة.
والمفارقة المؤلمة أن مشروع الصرف الصحي الذي يُفترض أن يُنقذ هذا الواقع البيئي ما زال متأخرًا عن التنفيذ، رغم توفر التمويل المسبق له من خلال منحة كويتية كريمة تصل إلى 45 مليون دينار أردني وربما تزيد ، ورغم وصول التصاميم الهندسية لمراحلها النهائية، إلا أن الأمر ما زال ينتظر درهمًا من الاهتمام الزائد، ليُسرع تنفيذه قبل غيره من المشاريع المماثلة.
إن الاستمرار في الاعتماد على الحفر الامتصاصية في منطقة ذات نفاذية عالية، هو بمثابة ضخ مستمر للملوّثات إلى مصادر المياه الجوفية، والتي تُعدّ من أهم مصادر الشرب والاستخدام المنزلي والزراعي في الإقليم وشمال المملكة.
فآبار النعيمة والمفرق هي الرئة المائية التي يتنفس منها مئات الآلاف، وان خطر تلوثها سيشكل كارثة بيئية سنكون عاجزين عن تحمل تبعاتها.
فبحسب التقارير والدراسات، فإن خطر التلوث لا يهدد فقط سكان الجنيد، بل يمتد أثره إلى المناطق التي تعتمد على نفس الحوض المائي، مثل النعيمة وشمال جرش وغرب المفرق.
وهكذا، يصبح التأخير في تنفيذ المشروع ليس مجرد تقصير في تقديم خدمة، بل تهديدًا مباشرًا للأمن المائي الوطني.
وإذا ما استمرّ هذا التأخير لفترات أطول، فإننا لا نتحدث عن مجرّد مشكلة محليّة، بل عن عجز بيئي شامل قد يطال البنية المائية العميقة للدولة، ويقودنا إلى ما لا تُحمد عقباه.
إن الوضع لا يهدد فقط نوعية المياه الجوفية، بل يهدد صلاحيتها بالكامل، وقد يصل إلى مرحلة تدهور الحوض المائي بشكل لا رجعة فيه.
وعلينا ان نعي بأن معالجة الأحواض المائية الملوثة بعد أن يتفاقم التسرّب وتتجاوز التراكيز الحدود الآمنة ليست مسألة يمكن لوزارة أو مؤسسة أن تتصدى لها بمفردها، بل تتطلب تدخلات وطنية ضخمة قد تعجز عنها مقدرات الدولة نفسها، سواء من حيث الموارد أو الزمن أو التكنولوجيا.
وهكذا، ننتقل من مساحة الإجراءات الوقائية الممكنة اليوم، إلى مساحة الاستنزاف الوطني في الغد، حين يصبح إصلاح الضرر أصعب من منعه، وحين نواجه فاتورة بيئية وصحية واجتماعية لا قدرة لنا على سدادها.
البيئة لا تنتظر، والتربة لا تُمهل، والمياه الجوفية لا تُصلح بعد فسادها.
وإذا لم يُنفذ هذا المشروع الحيوي فورًا، فإن الأردن مهدد بفقدان مورد مائي استراتيجي في واحدة من أعلى مناطق المملكة هطولًا للأمطار، وأكثرها عرضة للتسربات.
وبكل أسف، فإن كل يوم تأخير هو يوم تسرّب إضافي، وتراكم للملوّثات، وزيادة في كلفة المعالجة المستقبلية.
نداؤنا اليوم ليس من باب التذمّر أو طلب الرفاهية الخدمية، بل من موقع المسؤولية البيئية والوطنية والإنسانية.
إن مشروع الصرف الصحي في الجنيد يجب أن يُنفّذ الآن، دون تأجيل، قبل أن تتحوّل أرض منبع الخير إلى بؤرة تلوّث قاتلة، وقبل أن تفقد الدولة سيطرتها على أحد أهم مواردها من المياه النقية.
وأختم بالتحذير من محاولات محتملة لا سمح الله لتحويل وجهة المنحة الكويتية المخصصة لهذا المشروع إلى مناطق أخرى كما حدث اكثر من ذات مره، بتأثير بعض المتنفذين، في حال لم يتم اتخاذ قرار سريع بإطلاق المشروع من موقعه الطبيعي في الجنيد.
كلنا أمل بكم كاصحاب قرار بالايعاز للجهات المعنية بضرورة الاستعجال بتنفيذ هذا المشروع منتظرين بفارغ الصبر إعلان بدء التنفيذ على عجل!!.