المجلس الأعلى للسلامة المرورية والكروكا 18
د. نضال القطامين
31-07-2025 01:57 AM
حتى يقوم المجلس الأعلى للسلامة المرورية بدوره الحقيقي في خفض الحوادث، لا بد أن يتعامل مع الكروكا — المخطط الميداني للحوادث — باعتبارها قاعدة بيانات استراتيجية لأطراف المعادلة الأربعة: الطريق، الإنسان، المركبة، وأدوات الردع، وليست مجرد إجراء شكلي لإغلاق الملفات.
المطلوب أن تصل نسخة من كل كروكا إلى جميع أعضاء المجلس، كلٌّ حسب نطاق مسؤوليته، مرفقة بكافة التفاصيل التي تمكّنه من ربطها ببياناته الفنية؛ فجهات الطرق تحتاج إلى مقاطعتها مع بنك عناصر الطريق، وجهات السلوكيات بحاجة لربطها ببيانات حركة الماشي والراكب والسائق، وإدارة الترخيص مع بيانات المركبات، وهكذا.
هذه المقاربة تمكّن من تصنيف المخاطر إحصائيًا بدقة، بدءًا من المواقع الأكثر خطورة وتكرارًا للحوادث، وصولًا إلى الأقل خطورة، تمهيدًا لوضع حلول علمية مدروسة، ومتابعة هذه المواقع بشكل مستمر.
إن التحليل الإحصائي السليم للكروكا ليس مجرد إحصاء للحوادث، بل دراسة شاملة تشمل التحليل الزمني والمكاني، واستخلاص الأسباب الجذرية، وتحليل أنماط السلوك، وتوزيع الاحتمالات وفق منهجيات علمية معتمدة دوليًا، بما يتيح قرارات قائمة على الأدلة لا على الانطباعات.
وبهذا الأسلوب، يمكن لوزارة الأشغال العامة والإسكان تحديد النقاط السوداء على الطرق الخارجية، ولأمانة عمان والبلديات تحسين بيئة الطرق الحضرية، ولدائرة الترخيص ربط أعطال المركبات بالحوادث، ولوزارة التربية والتعليم تحديد مواقع الخطر على الطلبة، وللإعلام صياغة رسائل توعوية دقيقة، ولرجال السير تطبيق الردع بعدالة.
ورغم ما يبدو من قصور من معظم الجهات المسؤولة، إلا أنه من الواجب توثيق تقديرنا الكبير لرجال السير، الذين يتحملون مسؤولياتهم كاملة، بل ويتحملون أدوار جهات أخرى لم تقم بواجباتها في تحسين بيئة الطريق ومنع مسببات الحوادث قبل وقوعها.
في الدول المتقدمة، الكروكا ليست رسماً بسيطاً لمكان الحادث، بل وثيقة فنية وقانونية بالغة الدقة، تُعد في الميدان من قبل فرق مدرّبة تشمل رجل المرور، ومهندس الطرق، وخبير فني في المركبات، وأخصائي سلوكيات مرورية. يتم فيها تسجيل تفاصيل التفاصيل: حالة سطح الطريق، جودة العلامات والشواخص، مستوى الإضاءة، الأحوال الجوية، زاوية الرؤية، حالة المركبة قبل الحادث، وضعية أحزمة الأمان أو الخوذة، حركة المشاة، وحتى الملاحظات المتعلقة بالبيئة العمرانية المحيطة.
بعد ذلك، تُحلل هذه البيانات من قبل فرق متعددة التخصصات تضم مهندسي مرور، وإحصائيين، وخبراء قانون وغيرهم، وأخصائيين في السلامة، ويتم ربط النتائج ببنوك بيانات وطنية للطريق والمركبة ومستخدم الطريق، ما يتيح اكتشاف أنماط متكررة وتحديد المواقع عالية الخطورة. وتُصنف هذه المواقع وفق درجة الخطورة وعدد الحوادث المتراكمة خلال فترة لا تقل عن ثلاث سنوات، ويتم التدخل فيها بحلول هندسية أو تنظيمية أو ردعية، غالبًا بتكاليف منخفضة وفعالية عالية.
أما في الأردن، فالمطلوب أن تعتمد كل جهة مسؤولة — وزارة الأشغال، وزارة الإدارة المحلية، أمانة عمان، سلطة العقبة والبترا، وزارة التربية والتعليم، وزارة الإعلام، إدارة الترخيص، والأجهزة المرورية — الكروكا كأداة عمل يومية، وأن تربط بياناتها بها، وأن تتحمل مسؤوليتها عن الجزء المتعلق بها من أسباب الحوادث، سواء ارتبط بالطريق وبيئته، أو بالمركبة، أو بمستخدم الطريق ماشياً أو راكباً أو سائقاً.
وإذا أضفنا دور نقابة المحامين في الدفاع عن المواطنين عند وجود مخالفات مبنية على بيئة طريق غير آمنة أو تصميم هندسي خاطئ أو مركبة فاقدة لعناصر السلامة، فإننا نكون قد جمعنا بين العدالة والردع، واقتربنا من النموذج الدولي الذي أثبت فعاليته في خفض الحوادث بشكل مستدام.
أما إذا بقيت الأمور تدار بعشوائية، دون ربط إحصائيات الكروكا بتحليل متخصص في كل بلدية أو مديرية أشغال أو منطقة في أمانة عمان أو البتراء أو العقبة، فإننا نكون قد حكمنا على أنفسنا باستمرار الترهل لعقود، وأضعنا فرصة ذهبية لإنقاذ الأرواح وخفض الخسائر...