ليس أصعب من أن يُروى موتك على لسان قاتلك ، منذ البدء، حدث هذا ، فلم يتسنى لهابيل أن يدون مذكراته، ولا أن يروي ما حدث..
ومنذ ذلك الوقت، غدت الحكايا غير عادلة ..
نحن أبناء من عاش..
نحن أبناء القاتل..
جلّ الروايات التي نحملها ونثق بها ونبني عليها وعيَنا، كُتبت بأقلام الناجين، لا بدم الضحايا.
حين قتل قابيل أخاه، لم تكن لحظة عابرة في تاريخ البشرية لكنها كانت الشرارة التي أشعلت سلالة طويلة من رواة الجريمة، ممن لا يرتدّ إليهم طرف، ولا يهتزّ لهم ضمير..
نحن عرفنا من القاتل وعرفنا لماذا قتله
لكننا لم ولن يتسنى لنا أن نعرف كيف كانت نظرة هابيل الأخيرة، ولا أي صلاة تمتم بها، ولا كيف بللّ الدم الارض من تحته .
كل ما نعرفه هو أن القاتل عاش ليروي .. ومنذ ذلك الوقت، صار منطق الحكاية بسيطًا..
من ينجو، يكتب..
ومن يُقتل، يُنسى..
في نشرات الأخبار اليوم يسبق التصريح العسكري صور الضحايا ، وفي تقارير “التوازن”، يُساوى بين المعتدي، وبين مَن هدم بيته فوق رأسه.. بين من يطلق الرصاص ومن يتلقاه ..
تمر أمامي صورة لوجهٍ شاحب تحت الركام...
أتوقف لثوانٍ. ثم أتابع التمرير.
وأفكّر: كم مرة كنت فيها قابيل، دون أن أدري؟
كم كرة كنّاه؟
امتلأت شاشاتنا بصور أطفال ينادون أمهاتهم وسط الدمار، وأطباء يضيئون هواتفهم على جثث لا تزال دافئة، وأمهات يكتبن أسماء أولادهن على أذرعهم لئلا يضيعوا في المجازر..
المأساة لا تنقصها الصورة ، لكنها تفتقد الحكاية، فحتى الصورة، إن لم تجد من يصغي، تُصبح مجازًا لا صدمة.
أخاف أننا، دون أن نشعر، نُعيد إنتاج إرث قابيل ، لا في الفعل فقط، بل في الرواية.. في صمتنا. في ارتباكنا أمام الوضوح. في بحثنا المستمر عن “صيغة محايدة” للقتل.
أنا لا أبحث عن الحقيقة في العناوين العريضة ، أبحث عنها في ظلّ عين دامعة، في اسم غير مكتمل في أسفل الشاشة، في عبارة محذوفة من تقرير اخباري.. الصحافة التي أعرفها، لا تعيش دائمًا في صدر الصفحة ، تسكن الهامش، وتلتقط صوتًا يوشك أن يُمحى ولا تنتظر الضوء الأخضر لتقول: هذه جريمة!
نحتاج إلى شجاعة لنسمع الحقيقة.. لننصت، لا فقط للضجيج، بل لصوت من لا صوت له.
لصرخة الدم التي لا تُترجم في المؤتمرات.
ربما لا نستطيع بالكلام والكتابة أن نُغيّر مجرى العالم ، أو نؤثر باستمرار على الأحداث، لكني لا أريد أن أكون امتدادًا لصمتٍ بدأ مع قابيل.
لا أريد أن أروي الجريمة كما أرادها القاتل ولا أن أشارك في خنق الحكاية.
أخاف أن نُعيد سرد الجريمة بضمير مرتاح.
أخاف أن يكون إرث قابيل، ليس في القتل… بل في الصمت.