قراءة نقدية في ديوان ما قالت الريح لليل لِـ لهيب عبد الخالق
03-08-2025 12:10 PM
* همسُ الغربة وصلاةُ الريح
عمون - قراءة سمير اليوسف - حين تهبّ الريح على الليل، لا تكون الريح مجرّد تيارٍ هاربٍ في العتمة، ولا الليل مجرّد غيابٍ مؤقّتٍ للشمس؛ بل يغدو كلاهما استعارتين وجوديتين، تؤطران تجربة المنفى، وتمنحان الحنين أجنحة، والتأمل في الوجع والهوية والوجود أرضًا جديدة للكتابة. تلك هي الروح التي يتنفس بها ديوان "ما قالت الريح لليل" للشاعرة لهيب عبد الخالق، حيث لا تُكتب القصائد بوصفها وسيلة تعبير فنية فقط، بل تتحول إلى ضرورة وجودية، إلى شكل من أشكال المقاومة الصامتة، وإعادة تشكيل الذات في مواجهة الغياب والتشظي. فالكلمات، في هذا السياق، ليست أدواتٍ بل أوطانًا بديلة، وملاجئ تحتمي بها الذات في أقاصي المنافي.
لا يتعامل الديوان مع القصيدة باعتبارها وحدة مستقلة، بل يقدم سردية شعرية متكاملة، تفيض بالحنين والرمز، وتشكل فسيفساء شعورية تُبنى بلا خطٍّ زمنيٍّ مستقيم، وإنما عبر تداخل الموضوعات، وتكرار الرموز، وارتداد الصوت الداخلي بين صدى الذكرى وهاجس المستقبل. منذ عتبته الأولى، يُفتتح الديوان بثلاثية صوتية/شعورية تحمل عناوين "همس الظلال"، "همس الليل"، و"همس النخيل"، وكأن الشاعرة تؤسس فضاءً شعريًا شبه صوفي، تمّحي فيه حدود الزمان والمكان، ويتحوّل النص إلى مرآة داخلية يتردد فيها صوت الذات المعذّبة، الباحثة عن مأوى روحي، أو عن صيغة أكثر احتمالا للوجود.
تنبني البنية الشعورية العامة للديوان على ثلاث حركات داخلية مترابطة ومتفاعلة: حركة الوعي بالتمزق والانفصال، المتمثلة في الغربة والتيه والشتات، تليها حركة استعادة الهوية والذاكرة، عبر صور الأم، والوطن، والطفولة، والطبيعة، وصولًا إلى حركة ثالثة تغوص في التأمل الوجودي، حيث ما وراء اللغة، والعدم، والصمت، والأسئلة المفتوحة. كلّ ذلك يُنتج نصًا مركبًا، ينتمي إلى الشعر الوجداني التأملي، لكنه لا يغيب عن همّه الإنساني العام، إذ تتكرر في القصائد إشارات إلى الحرب، والأطفال المشردين، والخراب، والدمار، لتتحول القصيدة من بوح ذاتي إلى خطاب جمعي تُحيل فيه الشاعرة تجربتها الشخصية إلى مرآة لواقع أشمل.
تتوالى القصائد الاثنتان والعشرون في هذا الديوان، لا كتجميع عشوائي لنصوص شعرية، بل كبنية متكاملة تتنفس كوحدة واحدة رغم تعدد عناوينها. القصائد متفاوتة الطول، لكنّها متقاربة في الجوهر، حيث تنطلق جميعها من قلب الاغتراب، ومن مساحات الحنين، محمّلة بتجربة أنثوية تشتبك فيها الأنا الشاعرة مع وجع الجماعة، وتُستحضر فيها رموز الطفولة، الأم، الأب، الوطن، والبرد، ضمن محاولة دؤوبة لاستعادة دفء مفقود، أو للقبض على ظلٍّ يتبدد في المنافي.
وإذا كان الليل والريح عنوانين للغياب والتشظي، فإن ما “قالته” الريح لهذا الليل، هو في حقيقته ما تقوله الشاعرة لنفسها، وما تقوله لكلّ من حمل وطنًا في حقائب الذكرى، ولكل من يحاول أن يسترد خيطًا من دفء الإنسان وسط عاصفة العالم. هكذا، فإن ديوان ما قالت الريح لليل ليس مجرد شهادة شعرية على تجربة اغتراب، بل هو وثيقة وجدانية مكتوبة بالحبر والدمع، تتماهى فيها الشاعرة مع لغتها، ومع ذاتها، ومع كلّ من لا يزال يسأل: كيف نكتب الشعر حين يغيب الوطن؟ وكيف تصبح القصيدة بيتًا حين يتشظى البيت؟
ولعلّ أبرز ما يميّز لغة الشاعرة هو أنها ليست وسيلة فقط، بل موضوع قائم بذاته. فهي تنحت عباراتها بدقة، وتصوغ عالمًا شعريًا مغلقًا في مفرداته، مفتوحًا على التأويل في دلالاته. يتكرر في هذا العالم الشعري قاموس خاص من المفردات مثل "الدخان"، "الغيم"، "الضباب"، "النعناع"، "الريح"، "النرجس"، وغيرها، مما يمنح النصوص كثافة رمزية عالية، وإيقاعًا داخليًا نابضًا. ومع تحرر القصائد من الوزن التقليدي، فإنها تحتفظ بنغمة شعورية متماسكة، تنبع من عمق التجربة، واتساق الرؤية، لتؤكد أن القصيدة قد تكون الشكل الأسمى للانتماء حين يتعذر الانتماء، والصوت الأخير حين يصمت كل شيء.
لغة الديوان لغة متوهجة بالانفعالات، لكنها في ذات الوقت رصينة في بنائها، شفافة رغم عمقها الرمزي. تعتمد الشاعرة على قاموس لغوي مشبع بالمفردات التي تعكس المناخات النفسية المتوترة: الريح، الليل، الدخان، الغيم، المنافي، الجرح، الهاجرة.
تقول في قصيدة "ما قالت الريح لليل":
"أنشرُ الأنغامَ بينَ غمامِها
وأُراقصُ الأشجار،
ثم أُغمضُ شوقَ تلكَ الأرضِ،
أترُكُه على خدِّ الوسادةِ
دمعةً حرّى ".
اللغة هنا مشحونة بالشجن، والصورة تنبع من القلب لا من العقل، حيث تختلط الأنغام بالغيوم، والدمع بالوسادة، في مشهد عاطفي فائق التوتر.
تعتمد الشاعرة لهيب على الصورة الرمزية، لا التقريرية. فالوطن لا يُذكر بالاسم المباشر إلا نادرًا، بل يحضر عبر استعارات: النرجس، الغيم، السفن، الدروب، النخيل. هذه الصور تتكرّر بطريقة توحي بأن الشاعرة لا تبحث عن تنويع بل عن تعميق.
في قصيدة "أوراق في شراع الريح":
"أوراق في شراع الريح
تتكسرُ الكلماتُ فوق شواردِ الغيماتِ
تحفرُ في متونِ الموجِ أقدامًا إلى أرضٍ تناهتْ".
القصيدة هنا لا ترسم المشهد بل تذوّبه، حيث يصبح "شراع الريح" استعارة عن الغربة، و"أوراق" الشاعرة هي ذاكرتها الممزقة، الباحثة عن أرض/وطن.
تميل قصائد الديوان إلى النثر الشعري، وهو نثر ذو حس موسيقي داخلي، لا يتقيّد بالتفعيلة ولا الوزن، لكنه يحتفظ بإيقاع داخلي يأتي من التكرار والتركيب. نلحظ في الديوان بنية متوازنة تقوم على افتتاحات تأملية، وسط درامي، ونهاية مكسورة أو منفتحة، وهذا ما يظهر في قصيدة "نايٌ وبقايا حلم":
"كم أشتاقُ لشمسِ بلادي
تدفئُ ظِلي،
توقظني،
وتريقُ سنابلُها
صبحًا لا يشبهُ أيّ صباحٍ".
رابعًا: الرمزية والدلالة
الرموز في الديوان ليست زخرفية، بل دلالية، تستند إلى نسق تأويلي يتشكل عبر التكرار والتراكم. ومن أبرز الرموز:
• الريح: رمز للشتات والتيه.
• الليل: لحظة وجودية قاتمة.
• النرجس: رمز للذات الجريحة والوطن الغائب.
• الدخان: أثر الحرب، الخسارة، الزوال.
• النخيل: ثباتٌ شعري في وجه التهشيم.
كما تقول الشاعرة في تقديم الديوان:
"نركض فوق أجنحة السراب
طير همى من غيمة
وغربة النرجس،
لا نورس يحملنا
زهرة... خبأتها بين دفتي كتاب" (من مقدمة الديوان)
الذات في هذا الديوان ذات مجروحة، أنثوية، مشبعة بالإحساس القومي والأمومي في آن. الشاعرة تكتب من منفاها في كندا (هاليفاكس تحديدًا)، لكن الوطن يسكنها:
"يا أمُّ
قد طال الفراقُ بنا
وأدري أنني قسرًا
حملتُكِ في سفين الريح
للأرضِ البعيدةِ" – من قصيدة ومضاتً من شذا وطن.
تبدو الأم هنا الوطن المتجسد، والريح هي المنفى، والسفينة التي لا ترسو.
يتجلى المكان كفضاء نفسي/ثقافي لا جغرافي. المدينة التي تركتها الشاعرة لا تُذكر، لكن تفاصيلها تغمر النصوص: "دفء شاي الوالد"، "حكايا الأم"، "دفوف الأعياد"، بينما الزمان يعبر عن ضياع الطفولة، وخراب الذاكرة، وتوقّف الحلم.
إن ديوان ما قالت الريح لليل ليس مجرد دفتر شعر تكتبه شاعرة في منفاها البعيد، بل هو وثيقة وجدانية مشبعة بالحيرة والحنين والانكسار، نصّ تأمل واحتجاج شعري ضد الحرب، وضد الغياب، وضد انسحاق الهوية، وطقس اعتراف صامت وموجع تسطره لهيب عبد الخالق على حواف الغياب، لتُدوّن ملامح وطنٍ لم يبرح ذاكرتها، وإن ابتعد عنها جغرافيًا. فالقصائد، وإن بدت متفرقة في ظاهرها، تنسج في عمقها نصًا واحدًا طويلًا ومتصلًا، يتكئ على الروح ويستند إلى ذاكرة الأمكنة والأصوات والوجوه والأيام التي لم تعد تُشبه شيئًا إلا طيف الحنين.
القصائد ليست فقط مرآة لشاعرة تكتب من اغتراب مكاني، بل أيضًا من اغتراب زماني وشعوري، فهي تكتب "الزمن الداخلي" الذي تحطّم، وتحاول لملمته بالحرف والمجاز. ولعلّ أهم ما يميز هذا الديوان هو تماسكه البنائي والشعوري؛ حيث تتآلف القصائد رغم تنوعها في موضوع واحد: الحنين. ويتكرر هذا التوق في معظم النصوص، كأن الشاعرة تعيد كتابة ذاتها مرارًا عبر شظايا القصائد.
لقد أنشأت الشاعرة من قصائدها فضاءً لغويًا لا يكتفي بالتعبير عن الذات، بل يفتح نوافذ عديدة على قضايا الإنسان المغترب، والمرأة الحاملة لهويتها في ظل التبعثر، والعاشقة التي تكتب من حنجرة النار، والأمومة التي تذوب تحت ثلوج المنافي. كل هذا وذاك جاء بلغة مشبعة بالرمز، متخمة بالصور، وعابقة بالإيقاع الخفي، إيقاع الانكسار الداخلي الذي لا تلتقطه الأذن، بل ترجّه الروح.
إنه ديوان أنثوي الروح، وطني الانتماء، رمزي الشكل، صادق اللهجة، لا يكتفي بالكلمات، بل يجعل منها صلاةً على وسادة الليل، ورسالة في قارورة للريح، عسى أن تبلغ الوطن يومًا. وإذا كانت القصيدة في هذا الديوان تتقن لعبة التخفّي وراء الاستعارات، فإنها في ذات الوقت لا تُخفي موقفها الإنساني العميق من الحرب، والغربة، والخسارات المتراكمة. فالشاعرة لا تحارب مباشرة، لكنها تكتب تحت القصف، وتجمع رماد المدن، وتزرعه في قصائد تُضيء من تحت الركام. كل بيت هنا هو شمعة، وكل استعارة هي محاولة لرأب صدعٍ في ذاكرة مشروخة، وكل قصيدة هي خريطة لا تؤدي إلى الوطن، بل إلى القلب.
هكذا، تُبرهن لهيب عبد الخالق في هذا الديوان أنها لا تكتب لتُدهشنا فنيًا فحسب، بل لتُدهشنا وجدانيًا، بإصرارها على حمل الوطن داخل الكلمات، وبقدرتها الفريدة على تحويل الجرح إلى مادة شعرية شفيفة، تُحرّك القارئ وتُربكه وتدفعه للتأمل. لذلك فإن هذا العمل لا يُقرأ كدفتر شِعر فقط، بل كوثيقة وجدانية، تسجّل كيف يكون الشعر نجاةً من الغرق في عتمة الغربة، وكيف يمكن للكلمة أن تكون وطنًا حين يغيب الوطن.
ومن هنا، فإن الديوان لا يسائل الغياب وحده، بل يسائلنا نحن أيضًا: ماذا يبقى من الإنسان حين يفقد مكانه؟ هل يُمكن للحنين أن يكون شكلًا من أشكال المقاومة؟ وهل للذاكرة أن تصمد بوجه النسيان إن نحن أوقدناها بشعلة الشعر؟ في هذا الأفق، يصبح ديوان ما قالت الريح لليل شهادة على أن الشعر ليس فنًّا فقط، بل طريقة وجود، وسبيل تأمل، ووسيلة بقاء في عالم يتهدّم من حولنا كل يوم.