الأردن… صوت الحقيقة في زمن التضليل
د. تمارا زريقات
05-08-2025 09:07 PM
ما يحدث ضد الأردن منذ بدء الحرب على غزة لا يمكن إدراجه في خانة النقد أو اختلاف الآراء؛ بل ما يجري هو جزء من حرب وعي ممنهجة، تُدار بعقل مركزي محترف، وتُنفذ من خلال أدوات سيبرانية وإعلامية دقيقة؛ والمتتبع لها يلحظ بكل سهولة بأنها لا تستهدف الجميع، بل تُسلّط الضوء وتُصوّب نيرانها فقط على الدول التي تفعل وتقدّم، بينما تُهمل تمامًا من يغيب أو يكتفي بالصمت؛ هذه المفارقة وحدها كافية لفهم أنها ليست حملات عفوية، ولا تعبير عن انفعال فردي؛ هي حملات مدروسة ومنظمة وممنهجة، تديرها جماعات تستفيد من التشويش، وتسعى لإرباك الدول الفاعلة؛ تبدأ بالتشكيك، ثم بالتسخيف، وتصل إلى تشويه متعمّد للدول وللمؤسسات التي تنفذ على الأرض فعلًا نوعيًا.
ونحن نتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، يمكن أن نلحظ بوضوح ملامح هذه الحملات: حسابات وهمية بأسماء مألوفة، صور مسروقة، وشخصيات تُصنع من الفراغ لتبدو حقيقية؛ بعضها يُقدَّم لنا على أنه طبيب، أو ناشط، أو طالبة؛ كلها تُطلق لغة عاطفية؛ وتبني سردية مشوشة، لكنها تعمل وفق خطة منظمة هدفها واضح: التشكيك بما هو قائم، والطعن في كل ما يُنجز، الظاهر إنساني والباطن تفكيكي.
هذا يندرج تحت مفهوم “حرب الوعي”، كنمط جديد من الصراع يُستخدم فيه الإعلام الرقمي والتقنيات النفسية والذهنية كأدوات للنفاذ إلى العقول؛ يتم في هذا السياق استهداف الإدراك العام وإعادة توجيه مشاعر الناس ومواقفهم، ليس عبر الحجة والمنطق، بل عبر الإرباك والتشكيك وتزييف الواقع؛ وباعتقادي ما يسهل هذه الدينامية غياب الضوابط الصارمة التي تحكم الفضاء الرقمي مما يخلق بيئة خصبة لهذه الحملات المسمومة.
وفي هذا السياق، لم يكن الاعتداء على ست سفارات أردنية حول العالم حدثًا معزولًا، بل جزءًا من مشهد مُركّب ومنسق، يكشف أن هناك محاولة واضحة لإضعاف دور الأردن دوليًا وتشويه صورته، وهو خرق صارخ لاتفاقية فيينا لعام 1961 التي تحمي البعثات الدبلوماسية وتنظم العلاقات بين الدول.
في معرض الحديث عن هذه الحملات المضللة تظهر حقيقة بأن من يُستهدف هو من يتقدّم، ومن تُشوَّه صورته هو من يفعل لا من يتفرج؛ والسؤال هنا ليس فقط من يُهاجم، بل من يُستثنى؟ لماذا تُستهدف الدول التي تبادر وتُرسل وتُعلن؟ ولماذا تُترك دون مساءلة تلك التي تكتفي بالمشاهدة؟ الإجابة تكشف أن هناك من لا يريد للمساعدات أن تصل، ولا للحرب أن تهدأ؛ هناك تجار حروب، وهذه تسمية دقيقة، تشير إلى جهات تستفيد من استمرار النزاع، وتعيش على معاناة الناس، وتُوظف الأزمات لتحقيق مكاسب سياسية أو ربما مادية أو لإدامة سيطرتها، أو لحرف الضوء عن فشلها.
أوجعهم الأردن؛ فلم يكن طرفًا صامتًا، بل كان ومازال صوتًا أخلاقيًا وسياسيًا فاعلًا؛ منذ اليوم الأول للحرب كانت الدبلوماسية الأردنية حاضرة بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين؛ حيث قاد جلالته جهود دبلوماسية نشطة واعتلى المنابر الدولية وجال العواصم لتعزيز الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتسليط الضوء على الانتهاكات والمجازر ضد الإنسانية التي تمارس ضد الأشقاء في غزة؛ فتجاوزت خطاباتجلالته حدود السياسة لتشكل بوصلة أخلاقية لكل العالم في زمن الضياع ؛ مما جعل الأردن صوتًا فاعلاً في المحافل الدولية وأبقى على القضية الفلسطينية العادلة حاضرة في قلب الأجندة العالمية؛ وهذا أسهم في إحداث تحول نوعيا في مواقف الكثير من الدول من القضية الفلسطينية والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وعلى الأرض؛ واصل الأردن دعمه الكامل للمستشفيات الميدانية في غزة، وإقامة الجسور الإغاثية، وتنفيذ الإنزالات الجوية إلى داخل القطاع في ظروف ميدانية صعبة، نفذتها قواتنا المسلحة الباسلة بكفاءة واقتدار.
إن دورنا اليوم لا يقل أهمية عن صانع القرار؛ مواجهة حملات التضليل هي معركة كل وطني غيور وواجب يحتم علينا أن نصون الرواية الأردنية من التشويه، وأن نُحسن قراءة اللحظة، وأن نعيد إنتاج خطاب وطني عاقل يُخاطب العقل، لا ينساق خلف الانفعال؛ دون ان نغفل عن دور الإعلام المبادر، والمواطن الممحص، والمثقف المحلل؛ أي أننا فعليًا بحاجة لوعي يسبق الحدث يجسد الالتفاف حول ثوابت الأردن التي لم تتغيّر يومًا في دعمها لفلسطين؛ فمعارك الوعي أساسها الجبهة الأوعى ليس الصوت الأعلى..
والأردن، بقيادته الحكيمة، ومؤسساته الراسخة، وشعبه الواعي، يثبت بالرغم من كل هذه الحملات الممنهجة أنه باقٍ في موقعه الطبيعي وبقوته وثباته سندًا لشقيقته فلسطين ولأهل غزة، يواصل أداء دوره الإنساني والسياسي والدبلوماسي بثبات، مستندًا إلى نهج جلالة الملك عبدالله الثاني الذي جعل من القيم والمبادئ مرجعية لا تقبل المساومة، ومن الحق بوصلة لا تحيد……سيبقى الأردن، كما أراده مليكه، الدولة التي تحمي الكرامة، وتحفظ العهد، ولا تترك الإنسان وحيدًا في زمن تتناقص فيه الأصوات وتغيب الضمائر….