الأردن بين عجزين والطموح .. متى تتحقق قدرة الاعتماد على الذات؟
د. حمد الكساسبة
09-08-2025 01:58 PM
في اقتصاد صغير ومفتوح مثل الاقتصاد الأردني، لم يعد تحقيق القدرة على الاعتماد على الذات مجرد طموح وطني، بل أصبح ضرورة استراتيجية لضمان الاستقرار والسيادة الاقتصادية. إلا أن المؤشرات المالية الحالية تكشف حجم التحدي؛ إذ بلغت المديونية العامة، التي لا تشمل ديون الضمان الاجتماعي، نحو 35 مليار دينار حتى آذار 2025، أي ما نسبته 91.5% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما بلغ العجز المالي 2.26 مليار دينار أو ما يعادل 7.6% من الناتج المحلي. وهذه الأرقام تعكس فجوة مزمنة بين ما ينتجه الاقتصاد وما ينفقه.
ورغم أن الإيرادات المحلية ارتفعت بنسبة 7% بفضل إصلاحات ضريبية، فإن الأردن ما يزال يعتمد على المنح والمساعدات الخارجية التي تبلغ في المتوسط نحو 900 مليون دينار سنويًا. هذا الاعتماد على مصادر خارجية لتمويل النفقات الجارية يبقي الاقتصاد عرضة للضغوط السياسية والتقلبات الإقليمية.
ويتضح التحدي أيضًا في العجز التجاري الذي بلغ 9.68 مليار دينار في عام 2024، وهو ليس مجرد رقم في الميزان التجاري، بل يعكس ضعف القدرة الإنتاجية المحلية، إذ بلغت قيمة المستوردات ما يقارب 17 مليار دينار، مقابل صادرات بنحو 9.43 مليار دينار. هذا الخلل يستدعي التوسع في تطبيق سياسات إحلال الواردات، بحيث تُعطى الأولوية لزيادة إنتاج السلع محليًا لتقليل الاعتماد على الخارج.
وهنا تبرز رؤية التحديث الاقتصادي كأداة أساسية لمعالجة هذه الاختلالات، فهي تحدد أهدافًا واضحة لزيادة الصادرات وتعميق التصنيع المحلي وتنويع الإنتاج. لكن نجاحها يتطلب ربط مشروعاتها مباشرةً بتقليص العجزين المالي والتجاري، وتسريع الاستثمار الإنتاجي بدلًا من التركيز على البنية التحتية أو الخدمات التقليدية فقط. كما يمكن للأردن دراسة مبادلة جزء من الدين العام بمشاريع تنموية ترفد الاقتصاد وتخفف أعباء خدمة الدين.
وفي قطاع الطاقة، ورغم أن نسبة الكهرباء المولدة من مصادر متجددة بلغت 27%، فإن فاتورة استيراد الطاقة ما تزال تتجاوز 4 مليارات دينار سنويًا. وتُظهر تجربة المغرب في خفض واردات الطاقة عبر مشروعات كبرى للطاقة الشمسية والرياح أن تسريع الخطى في هذا المجال ممكن إذا توافر التمويل والإرادة السياسية، وهو ما تسعى إليه الرؤية.
أما قطاع التعدين فيمثل رافعة مهمة نحو الاعتماد على الذات، إلا أن نسبة كبيرة من صادرات الفوسفات والبوتاس ما تزال تُباع خامًا، مما يحد من العوائد. وقد بدأت شركتا البوتاس العربية ومناجم الفوسفات الأردنية في الاستثمار بصناعات تحويلية لزيادة القيمة المضافة، لكن هذه الجهود تحتاج إلى التوسع والتسريع. وتوضح تجارب المغرب وتشيلي كيف أن تعميق المعالجة يزيد العوائد ويعزز القدرة التصديرية ويوفر فرص عمل نوعية.
وفي الزراعة، تمتلك المملكة فرصًا واعدة لتعزيز الأمن الغذائي وتقليص فجوة الغذاء، مع إمكانية الاستفادة من تجربة رواندا التي نجحت في رفع الإنتاجية الزراعية بأكثر من 40% خلال عقد واحد عبر إدخال التقنيات الحديثة وتطوير سلاسل التوريد. ويعني ذلك أن الاستثمار المنظم في هذا القطاع يمكن أن يسهم في خفض فاتورة الاستيراد وتعزيز النمو في المناطق الريفية.
إن تحقيق القدرة على الاعتماد على الذات خلال سبع إلى عشر سنوات ممكن إذا تحولت رؤية التحديث الاقتصادي من وثيقة أهداف إلى برنامج عمل يومي مُقاس بالنتائج، يضع في أولوياته الإنتاج المحلي، وتقليص العجزين، وبناء شراكات حقيقية مع القطاع الخاص. عندها فقط يصبح الاعتماد على الذات واقعًا يعزز القرار الوطني ويحمي الاقتصاد من الصدمات ويوفر نموًا مستدامًا.