في رقبة مَن "خطيّة" هؤلاء؟!
محمود الدباس - أبو الليث
12-08-2025 12:36 PM
نعيش في زمنٍ تتقلب فيه الأرزاق والأحوال.. كما تتقلب الفصول.. ويصير عقد العمل بالنسبة للكثيرين.. أثمن من الذهب.. فيصبح مَن يملكه كمن وجد مصباح علاء الدين.. لكن الحكاية لا تنتهي عند العثور عليه.. فثمة مَن يوضع فجأة أمام خيار صعب.. أيبقى ممسكاً به خوفاً من ضياع ما بين يديه.. أم يقفز نحو حلم يبدو أكبر وأجمل.. لكنه محفوف بالمجهول؟!.. وبين الأمل والرهان.. قد يجد المرء نفسه خاسراً في الحالتين.. لا نال الكنز الموعود.. ولا احتفظ بما كان بين يديه..
وحين نتحدث عن المعلم.. فهو ليس رقماً في كشف رواتب.. ولا ورقة في ملف تعيين.. هو صانع وعي.. وحارس أجيال.. لكن في سياسات وزارة التربية الحالية.. صار المتعلم والخريج.. وكأنه متهم حتى تثبت براءته.. خريج جامعاتنا المعترف بها.. يخضع لامتحانات ومقابلات.. وكأن سنوات دراسته وشهادته لا تكفي شهادة حسن سلوك مهني..
في كل إعلان للتعيين.. يركض العشرات.. أو حتى المئات ممن يعملون في المدارس الخاصة.. وينتظرون دورهم في الخدمة المدنية.. يقبضون على الأمل وكأنه فرصة العمر.. هؤلاء الذين لم يجلسوا في البيوت.. بانتظار طابور الخدمة المدنية الطويل.. بل اختاروا أن يظلوا قريبين من مهنة التعليم.. يطورون مهاراتهم.. ويحافظون على شغفهم.. حتى وإن كانت رواتبهم بالكاد تكفي..
لكنهم سرعان ما يجدون أنفسهم أمام معادلة مؤلمة.. تجديد عقد مضمون.. لكنه ضعيف الأجر والحقوق.. أو مغامرة مجهولة المآل.. اسمها امتحان الوزارة.. أو امتحان التوظيف.. وإجراءاته..
وحتى مَن يغامر ويترك عقده.. قد يعود خالي الوفاض بعد أن يكتشف.. أن الأعداد المتقدمة أضعاف المطلوب.. وأن الوزارة تشكك ضمناً في مؤهلات مَن خرّجتهم جامعاتنا.. رغم أن مَن يتم اختياره.. سيخضع لاحقاً لدورات تأهيلية.. في رسالة واضحة بأن شهادتك وحدها لا تكفي.. ومع ذلك نثمن ذلك.. لكي يكون خريج الجامعة مؤهلاً للعملية التدريسية..
والأدهى.. أن النجاح في الامتحان والمقابلة.. ليس نهاية المطاف.. فقد يُدرج اسمك في ما يُسمى مخزون القوى البشرية.. قائمة انتظار بلا موعد واضح.. قد تُستدعى بعدها بأسبوع.. أو تبقى فيها أشهراً.. أو حتى سنوات.. وخلال هذه المدة قد تكون خسرت عملك في المدرسة الخاصة.. التي استغنت عنك بمجرد انتهاء عقدك.. ورفَضت تجديده.. لأنك كنت في خضم مراحل الوظيفة الحكومية.. والتي لا يعلم أحد متى ستكون؟!..
وهنا يبرز السؤال المنطقي.. ما الذي يمنع الوزارة.. من اختصار كل هذه المدة إلى يومين فقط؟!.. الامتحان محوسب.. والنتيجة ومعدل المفاضلة تظهر مباشرة بعد انتهائه.. وفي اليوم التالي تتم مقابلة الأعلى ترتيباً.. لتعلن النتائج النهائية فوراً.. بل وما يضيرنا.. إن كان ذلك حتى في يومي الجمعة والسبت.. إن كنا فعلاً نسعى كحكومة لراحة المواطن.. وتخفيف معاناته؟!..
هذه السياسة الحالية.. لا تُهدر وقت المعلمين فحسب.. بل تُهدر خبراتهم.. وتتركهم في فراغ مهني ومعيشي قاسٍ.. في وقتٍ.. نحن فيه أحوج ما نكون إلى معلم مستقر.. متفرغ لتطوير نفسه.. وتدريس طلابه.. لا منشغل بمطاردة وعود قديمة على ورق..
الاعتراف الحقيقي بمؤسساتنا التعليمية.. يبدأ من احترام مخرجاتها.. ومنح خريجيها فرص عمل عادلة وواضحة.. لأن فقدان الثقة بجامعاتنا وكلياتنا.. يعني خسارة معركتين في وقت واحد.. معركة الحفاظ على معلمينا داخل الوطن.. ومعركة استعادة مكانتنا في أسواق التعليم العربية..
فمن سيتحمل "خطيّة" هؤلاء.. الذين ضاعت سنواتهم وأرزاقهم بين امتحان.. ومقابلة.. ومخزون لا نهاية له.. بينما الحل في متناول اليد بيومي عمل فقط؟!..