الذكاء الاصطناعي في الأردن: من الأوهام إلى القيمة الحقيقية
د. حمزة العكاليك
13-08-2025 09:58 AM
في أحد مستشفيات، تدخل الذكاء الاصطناعي في اللحظة الحرجة لإنقاذ حياة مريض، بعد أن تمكن من تحليل صورة أشعة سينية بدقة فائقة، شخّص من خلالها وجود ورم خبيث لم يكن ظاهرًا بالعين المجردة، وقدم توصية استباقية بخطة علاج متكاملة. هذه الواقعة الحقيقية لا تمثل مجرد طفرة تقنية عابرة، بل هي انعكاس عملي لإمكانات الذكاء الاصطناعي المتزايدة، التي باتت تمتد لتعيد رسم ملامح جودة الخدمات، وتفتح آفاقًا اقتصادية غير مسبوقة في الأردن والمنطقة.
ورغم أن العالم يشهد سباقًا متسارعًا نحو الاستثمار في الذكاء الاصطناعي، حيث تُظهر المؤشرات العالمية أن أكثر من 88% من المديرين التنفيذيين يعتزمون زيادة موازناتهم الخاصة بهذه التقنية خلال العامين المقبلين، فإن المفارقة تكمن في أن أقل من 1% من المؤسسات حول العالم وصلت إلى درجة النضج الكامل في تطبيقاته. المشهد الأردني لا يخرج عن هذا السياق؛ فبينما نشهد اهتمامًا متزايدًا على مستوى السياسات والمبادرات، إلا أن الكثير من مشاريع الذكاء الاصطناعي المحلية ما تزال تدور في فلك التجريب دون هيكل مؤسسي ناضج يضمن الاستدامة والتأثير الحقيقي.
وقد حذرت مؤسسة "جارتنر" العالمية من أن أكثر من 40% من مشاريع الذكاء الاصطناعي مهددة بالإلغاء بحلول عام 2027، ليس بسبب تعقيد التكنولوجيا ذاتها، بل بسبب ضعف في آليات التنفيذ، وغياب وضوح الأهداف، وارتفاع تكاليف التشغيل، ومحدودية الكفاءات القادرة على قيادة هذه التحولات. ما يعني أن الذكاء الاصطناعي، إذا لم يتم احتواؤه ضمن رؤية استراتيجية واضحة، قد يتحول من فرصة إلى عبء مالي وتنظيمي على المؤسسات.
إن النضج في الذكاء الاصطناعي هو رحلة تحولية تتطلب التزامًا لا يتزعزع عبر ست ركائز مترابطة. تبدأ هذه الرحلة بـ استراتيجية الذكاء الاصطناعي الواضحة، التي لا تكتفي بمواءمة التكنولوجيا مع الأهداف التجارية، بل تعيد تعريف كيفية عمل المنظمة بأكملها. ثم تتجسد هذه الاستراتيجية في قيمة الذكاء الاصطناعي، التي تتجاوز مقاييس الإنتاجية التقليدية لتشمل النتائج السلوكية الحاسمة، مؤكدة أن الثقة البشرية هي المحرك الأساسي للتبني. يتطلب تحقيق هذه القيمة تنظيمًا مؤسسيًا مرنًا، يتميز بفرق "اندماج" متعددة التخصصات
ولكي تستفيد المؤسسات الأردنية من الذكاء الاصطناعي كرافعة للتحول الرقمي والنمو الاقتصادي، فإنها تحتاج إلى تبني إطار شامل للنضج المؤسسي، يقوم على هذه المكونات الست الرئيسية. أولها ضرورة بناء رؤية استراتيجية متكاملة، تُحدد من خلالها الأهداف الواقعية والقطاعات ذات الأولوية مثل الزراعة، والصحة، والسياحة، والخدمات الحكومية. ثانيًا، لا بد من تطوير آليات دقيقة لقياس القيمة المضافة للذكاء الاصطناعي، سواء على المستوى التجاري، أو التقني، أو السلوكي من حيث تقبل الموظفين ومشاركة أصحاب المصلحة.
أما العنصر الثالث، فيكمن في تعزيز العمل التشاركي بين وحدات المؤسسة المختلفة، من خلال فرق متعددة التخصصات، وإنشاء مراكز تميز تكون بمثابة الجهة المرجعية المعنية بقيادة وتنسيق مبادرات الذكاء الاصطناعي. ويأتي رابعًا ضرورة الاستثمار في محو الأمية الاصطناعية، أي تأهيل الكوادر البشرية من مختلف المستويات الوظيفية لفهم مفاهيم الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته وأثره المتوقع على بيئة العمل.
كما يشكل ضبط الحوكمة بُعدًا لا غنى عنه، خصوصًا في ظل التحديات الأخلاقية التي يفرضها الذكاء الاصطناعي على خصوصية البيانات وشفافية القرارات. ومن هنا تبرز الحاجة لاعتماد سياسات واضحة تحكم استخدامه وتضمن التزامه بالقوانين المحلية والدولية ذات الصلة.
أما المكون الأخير، فيتعلق بتأهيل البنية التحتية الرقمية وضمان جودة البيانات، باعتبارها المحرك الأساسي لفعالية أي نظام ذكي.
في ضوء هذه المحددات، تبدو الفرصة مواتية أمام الأردن لتسخير الذكاء الاصطناعي في تحقيق قفزات نوعية في الإنتاجية، وتحسين جودة الحياة، وخلق أسواق جديدة، وتوفير حلول ذكية لمشاكل مزمنة مثل ندرة المياه أو الاكتظاظ المروري. كما أن البيئة الأردنية، إذا ما تم تعزيزها بإصلاحات تنظيمية واستثمارات مستدامة، قادرة على جذب شركات التكنولوجيا العالمية التي تبحث عن أسواق واعدة ذات كفاءات بشرية وموقع استراتيجي مميز.
فدراسات الحالة تُظهر أن المنظمات التي تحقق تحولًا ناجحًا في الذكاء الاصطناعي لا تركز على ركيزة واحدة، بل تتبنى نهجًا شاملاً يدمج الاستراتيجية والقيمة والتنظيم والأفراد والثقافة والحوكمة والهندسة والبيانات. مما يعني إنها تنتقل من التجريب إلى التكامل المنهجي، وتستثمر في المواهب، وتؤسس حوكمة قوية، وتدير التغيير بفعالية، مما يؤدي إلى نتائج تجارية ملموسة وميزة تنافسية مستدامة.
في المحصلة، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد خيار تقني أو موضوعاً للندوات والنقاشات النظرية، بل أضحى ضرورة اقتصادية وتنموية، تتطلب من القطاعين العام والخاص في الأردن التحول من نهج المشاريع التجريبية إلى بناء المنظومات المستدامة. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل الأردن جاهز ليكون في صدارة هذا التحول، أم سنكتفي بدور المتلقي في مشهد الاقتصاد الرقمي العالمي؟