صناعة المستقبل لا انتظاره (تجذير الريادة بالتعلم)
د. أميرة يوسف ظاهر
13-08-2025 05:28 PM
التعليم الريادي ليس درسا إضافيا أو منهجا ملحقا، وانما تحول جذري في فلسفة التربية ذاتها، فهو انتقال من نموذج الإيداع المصرفي للمعلومات -كما وصفه باولو فريري- لبناء الإنسان القادر على تفعيل واقعه وصناعة فرصه، واستعادة وكالته الذاتية، كرؤية تحرر العقل والإرادة من سلبية التلقي، وتغرس الثقة الراسخة بأن كل طالب قادر على التغيير، وحل المشكلات المعقدة، وخلق قيمة مستدامة لمجتمعه.
وهذا النموذج في جوهره يعيد تعريف التعلم: من عملية استهلاك معرفة جاهزة، إلى عملية خلق مستمرة تبنى عبر الفعل والتجريب والتفاعل الحي مع العالم، لا ليصبح الفشل عيبا يخبأ، وإنما بيانات قيمة في رحلة الابتكار، فتذوب الحدود المصطنعة بين الفصل الدراسي والمجتمع ليتحول الصف إلى مختبر اجتماعي، والمجتمع إلى امتداد طبيعي له، وتصبح التحديات المحلية مناهج حية يتعلم الطالب من خلالها أن يكون جزءا من الحل لا مجرد متلق سلبي.
والتجربة السويدية تقدم مثالا عمليا ملهما كنظام متكامل ينسج قيم ومهارات الريادة: الابتكار والمبادرة وتحمل المخاطر المحسوبة والتعاون والمرونة، في جميع المواد الدراسية منذ الطفولة المبكرة وحتى الجامعة؛ فيدور التعلم حول المشاريع والتجارب الحية، كمشاريع لحل مشكلات مجتمعية حقيقية، وتوثيق رحلة كل طالب في محفظة إنجاز ريادية تظهر مبادراته، والعقبات التي تغلب عليها والأثر الملموس الذي أحدثه، هذا التحول يفرض تغييرا جذريا في دور المعلم من ناقل للمعرفة إلى ميسر ومحفز للاستكشاف، يتطلب تدريبا نوعيا يجعله هو نفسه رائد أعمال تربويا قادرا على إدارة الفوضى الخلاقة، وطرح الأسئلة التي تشعل الشرارة النقدية والإبداعية.
في هذا النموذج تتحول المدرسة من حصن منعزل إلى منصة مفتوحة للابتكار المحلي، تبني شراكات عضوية مع القطاع الخاص والمزارعين والحرفيين والفنانين والمنظمات غير الربحية، وتصبح مركز إشعاع لمبادرات تلبي احتياجات محيطها المباشر، فتتغير البنية التحتية لتوفر مساحات مرنة للتجريب والبناء والعمل المشترك، مدعومة بسياسات تمنح الاستقلالية وتشجع التجريب، وتوفر تمويلا ذكيا للمشاريع الطلابية الواعدة. فتصبح المناهج مرنة قائمة على السياق، قابلة للتكيف مع خصوصيات كل منطقة، فتدمج حل مشكلة ندرة المياه في الفيزياء أو تطوير تسويق المنتجات المحلية في اللغة والدراسات الاجتماعية، مما يخلق لدى الطالب احساسا عميقا بمعنى ما يتعلمه وارتباطه بواقعه.
في الأردن لا يعني استلهام النموذج السويدي استنساخه، بل صياغة ريادة متجذرة في تربة وثقافة محلية، فروح المبادرة وحل المشكلات متأصلة في نسيجنا الاجتماعي، ويمكن تحويل تحديات كالبطالة وندرة المياه إلى وقود للإبداع؛ ففي الأغوار الجنوبية قد يصمم طلاب الزراعة أنظمة ري ذكية تقلل الهدر بنسبة 40%، وفي البترا والسلط يمكن تطوير تطبيقات رقمية تحاكي التراث المحلي، وفي المخيمات والمناطق المهمشة يمكن تحويل النفايات إلى مواد بناء صديقة للبيئة، وفي البادية قد تطور طالبات ألعابا رقمية تعليمية عن التراث تنافس عالميا، فالنجاح يتطلب بدءا متدرجا ذكيا بالتركيز على نقاط النور القائمة في التعليم المهني والتقني، وبعض مبادرات الجامعات والقطاع الخاص، ودعمها كنماذج يحتذى بها، مع البدء من المراحل المبكرة لبناء العقلية الريادية.
هذا التحول الجذري يتحقق بوجود قيادة تربوية شجاعة تمنح المعلمين الثقة والمساحة لتجريب الجديد، وتتقبل الفوضى الخلاقة المصاحبة للإبداع العملي، وبإرادة سياسية توفر الإطار التشريعي الداعم، والاستثمار المستدام في تدريب المعلمين وتحويل البيئة المدرسية، مع تبني أنظمة تقييم جديدة تقيس المهارات والسلوكيات الريادية لا الاكتفاء بالمعرفة النظرية، وجوهر الريادة هنا في خلق قيمة إنسانية متوازنة بين الربح والمسؤولية الاجتماعية، بين الابتكار والحفاظ على الهوية، بين الفردية والتضامن.
التعليم الريادي بهذا الفهم العميق ليس ترفا فكريا لكن ضرورة وجودية للأردن في عصر الثورات المتلاحقة، إنه استثمار في العقل والإرادة الإنسانية لشبابنا، وأداة لتمكينهم من صناعة مستقبلهم بدل انتظاره.
تخيلوا مدارس في إربد تنتج أغذية مجففة مبتكرة، وشابات في العقبة يديرن مشاريع سياحة بيئية مستدامة، وشبان في الزرقاء يحولون النفايات الإلكترونية إلى مواد خام قيمة، هذا ليس حلما لكنه نتيجة حتمية لوضع الإنسان وقدرته على الخلق في قلب العملية التعليمية، وتحويل التعليم إلى منصة للتحرر والإبداع والعمل المشترك، حتى لا نعد الطلاب للحياة فحسب بل نجعلهم قادرين على إعادة تشكيلها وبناء أردن الريادة والكرامة.