ما بين دوار الداخلية والمضافة
محمود الدباس - أبو الليث
25-08-2025 11:53 AM
قدّر الله أن أذهب قبل عدة أيام إلى إحدى المضافات في عمان لتقديم واجب العزاء.. ركنت سيارتي المتواضعة.. ليس بعيداً عن باب المضافة.. وحين وصلت الباب.. التقيت رجلاً أعرفه.. فأصر بأيّمان مغلظة.. إلا أن أدخل قبله.. وجلست معه نُبادل الحديث عن المتوفى.. وعن بعض شؤون الحياة.. ودخل الحديثَ معنا آخرون.. حتى إذا ما استأذنتهم للخروج لواجب آخر.. وبعد أقل من ساعتين.. وجدت نفسي عند دوار الداخلية.. ذاك الذي يعرفه الجميع بازدحامه.. بالكاد أدخلت مقدمة سيارتي في حرم الدوار.. ومددت يدي من النافذة أطلب فسحة.. فإذا بالسيارة الأقرب تزاحمني بقسوة.. وكادت تصطدم بي.. نظرت إلى سائق تلك السيارة الفارهة.. فإذا به الرجل نفسه.. الذي قبل ساعات.. لم يقبل أن يدخل المضافة قبلي.. ينظر إليّ.. وفمه يتحرك كأنه يشتمني.. مصرّاً ألا يفسح لي المجال..
فما بين دوار الداخلية والمضافة.. وجوه مختلفة لذات الشخص.. في المضافة.. حيث الأعين ترصد الحركات.. وتزن الكلمات.. يلبس البعض ثوب الوقار.. يوزع التواضع بسخاء.. يُقدم الآخرين إلى المقاعد.. ويقسم أيماناً مغلظة بأنه لا يرضى أن يدخل قبلك.. فيبدو رجلاً مهذباً.. محاطاً بهالة من الاحترام المفتعل.. وكأنما يريد أن يُكتب اسمه في دفاتر المروءة..
لكن حين تنطفئ العيون التي تراقب.. وحين يغيب الحشد الذي يمنحه شهادة حسن سلوك اجتماعية.. يكشف هذا البعض عن وجهه الحقيقي.. فإذا به عند دوار الداخلية.. وسط الزحام والاختناق.. يخلع ثوب المضافة.. ويلبس ثوب الكبرياء المقيت.. يدفع بسيارته الفارهة ليغلق الطريق.. يرفض أن يترك لسيارة بسيطة متسعاً.. حتى لو كان سائقها هو ذاته الذي رفض قبل ساعات أن يسبقه إلى مقعد العزاء..
هنا.. يتجلى الفصام الأخلاقي الذي ينخر مجتمعنا.. حيث لا تُقاس الأخلاق بميزان ثابت.. بل تتلون كما يتلون الثوب بين المضافة والشارع.. بين عيون المراقبين وحقيقة المواقف.. بين الرغبة في كسب صورة اجتماعية.. واندفاع غريزة الاستعلاء حين لا يكون هناك من يصفق..
أية رسالة نبعثها لأولادنا ونحن نظهر لهم وجهاً في المضافة.. ووجهاً آخر على الدوار؟!.. أي احترام ذاك الذي نمارسه على الأبواب لنُكسب الناس رضاهم.. ثم ننسفه عند أول فرصة اختبار حقيقي؟!.. وهل أصبحت السيارة الفارهة.. أو نظرة الزوجة الجالسة بجوار السائق.. سبباً في أن يختنق قلبه عن فعل بسيط.. يفتح الطريق لنفسه ولمن خلفه؟!..
إننا نعيش أزمة أخلاق حقيقية.. أزمة تجعلنا ممزقين بين التمثيل والواقع.. بين صورة نعرضها للناس في المناسبات.. وحقيقة نُخفيها عنهم حين لا يرانا أحد.. بينما جوهر الأخلاق ليس في المضافة حيث المظاهر.. بل عند لحظة ضيق.. عند زحام الدوار.. عند خيار بسيط أن تفسح المجال أو أن تغلقه..
فهل آن لنا أن نعيد تعريف الاحترام.. لا باعتباره عرضاً اجتماعياً مؤقتاً.. بل سلوكاً ثابتاً في كل حال.. سواء كنت في مضافة مزدحمة بالعيون.. أو على دوار مكتظ بالسيارات؟!..
الأخلاق لا تقاس بيمين مغلظة ولا بثوب يلبس عند الباب.. الأخلاق تقاس عند لحظة الحقيقة.. حيث لا يراك إلا الله..