facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الذاكرة الرقمية .. من دفاتر الذكريات إلى “الستوري"


د. ربا زيدان
25-08-2025 12:11 PM

أحتفظ منذ سنوات بصندوق خشبي صغير.. أبقي فيه قصاصات جرائد قديمة، ورسائل شبه ممزقة، وكعوب تذاكر سفر، وصور مطبوعة، وأساور بلاستيكية مهترئة، وبطاقات معايدة ممهورة بتوقيع أسماء شكلّت فيما مضى جزءا من حياتي..
يمتلأ الصندوق بأشياء قد تبدو بلا قيمة للآخرين. لكنه يسعدني، فذكرياتي المحتشدة فيه لا تحتاج إلى شاشة ولا كلمة مرور. يكفي أن أفتحه لأشعر أن لحظة ما.. ما زالت حاضرة، وأن الزمن لم يبتلعها.

بالتدريج ومثل كثيرين غيري ,,بدأت أخزن ذكرياتي بصورة " أكثر رقمية" مذ اقتنيت أول هاتف ذكي، اليوم تغيّرت علاقتنا بالذاكرة. لم نعد نطبع الصور أو نوزع الألبومات بفخر في أرجاء المكان، صارت لحظاتنا معلّقة في فضاء رقمي: صورة على الهاتف، رسالة على تطبيق محادثة، أو “ستوري” على منصة افتراضية تختفي بعد أربعٍ وعشرين ساعة. أجزم أننا اليوم نوثّق حياتنا أكثر من أي وقت مضى، لكن توثيقنا لها هشّ، مؤقت، وبلا وعد حقيقي بالبقاء.

أذكر أن موريس هالبفاكس الفيلسوف الفرنسي كان قد كتب مرة أن الذاكرة تُبنى داخل الجماعات، وأن ما نتذكره يرتبط بالآخرين وبما نحتفظ به معًا. لكن ذاكرتنا اليوم فردية، معزولة، كل منّا يملك أرشيفًا شخصيًا في هاتفه، لا يراه غيره، وربما لا يعود إليه هو نفسه الا لماما .. كأننا كما وصفنا فرانسوا هارتوغ، صاحب مفهوم نظام الحضور :regimes of historicity" نعيش اليوم في زمن يبتلع الماضي والمستقبل معا، ويبقينا أسرى للحظة الحاضرة وحدها، هذه اللحظة الرقمية السريعة، العابرة، والتي لا تستقر في مكان، لكنها تصوغ شكلا جديدا من الذاكرة، لا نملك بعد ما يكفي من الوعي لنعرف مدى قدرتها على الصمود أو البقاء...

أحيانًا أبحث عن صورة قديمة في هاتفي فلا أجدها، وكأنها تلاشت وسط آلاف الصور . يحدث لي هذا كثيرا، رغم إدراكي أن في صندوقي الخشبي صورة من عشرين عامًا ما زالت كما هي. الفارق بين الصورتين، والذاكرتين، ليس في قيمة اللحظة، بل في قدرتها على البقاء..

الخوف الحقيقي اليوم فيما يتعلق بذاكرتنا الرقمية، ليس من أن تُمحى صورنا من هواتفنا، بل من أن يُمحى إحساسنا بأننا عشناها فعلًا. فالذاكرة ليست ما نُخزّنه فقط، بل هي ما نستطيع أيضا أن نلمسه، أو نشمّه، أو نحتفظ به في مكان ما، هو ما يمنحنا يقينًا أننا كنّا هنا، يومًا .

ما بين الصندوق الخشبي و”الستوري” يتأرجح معنى البقاء. الأول يَعِد بالثبات، والثاني يعكس عابرية الزمن. وربما نحن جيل يعيش على الحافة: يحنّ إلى ما يبقى، ويستسلم لما يزول. وفي هذا التناقض نصنع ذاكرتنا الجديدة… ذاكرة غير مكتملة، لكنها مرآة تشبه زمنها.

وربما تكون مشكلتنا مع الذاكرة الرقمية ليس في كونها قصيرة العمر، بل أنها تُشبهنا أكثر مما نظن. ..عابرة هي ونحن عابرون. لكنا منذ الرجل الأول، نبحث دائمًا عن شيء يبقى، عن أثر يواجه النسيان. و يظل الهاجس يراودنا : هل نملك حقًا ما يجعلنا نُقاوم هذا المحو؟ أم أن قبول الزوال هو ذاكرة هذا العصر؟





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :