التكتلات البرلمانية .. اختبار الأردن الجديد على طريق التحديث السياسي
د. أميرة يوسف ظاهر
26-08-2025 10:45 AM
يشهد الأردن اليوم تحولات برلمانية وسياسية غير مسبوقة تعكس بداية مرحلة انتقالية جديدة في الحياة الحزبية، فمن الواضح أن البرلمان لم يعد حكرا على الطابع الفردي والولاءات المناطقية والعشائرية التي طغت لعقود، فلقد أخذت القوائم الوطنية التي فرضها القانون الانتخابي الجديد تفتح المجال لظهور كتلة حزبية لها وزنها داخل المجلس، ما أوجد مشهدا أكثر تنوعا وأقرب إلى العمل الجماعي المنظم.
فالانتخابات الأخيرة مثلت لحظة فاصلة في هذا المسار، والقانون المعدل لم يكتف بزيادة حضور الأحزاب في البرلمان، بل أجبر المرشحين المحليين على التفكير في الاصطفاف الحزبي أو تشكيل كتل لاحقا للحفاظ على تأثيرهم، وهنا تكمن النقلة النوعية الأهم؛ حيث نهاية هيمنة الفرد وبداية صعود العمل البرامجي، إذ أصبح التمثيل النيابي أكثر ارتباطا بالأفكار والبرامج وإن كان لا يزال في طور التبلور.
التكتلات النيابية الناشئة اليوم ليست مجرد تحالفات ظرفية كما كان الحال في برلمانات سابقة تبدو أكثر تماسكا وتنظيما، فصحيح أن بعضها ما زال في مرحلة جنينية، إلا أن قيامها على أساس برنامجي ولو كان محدودا يجعلها أكثر استعدادا للتطور نحو صياغة أجندات سياسية واقعية، والإصلاحات التشريعية الأخيرة لعبت دورا محوريا في ذلك؛ فالتعديلات الدستورية إلى جانب قوانين الانتخاب والأحزاب، وضعت بنية تحتية قانونية تمهد لحياة سياسية أكثر انفتاحا، حين خفضت سن الترشح ووسعت مشاركة الشباب والنساء، ومنحت الأحزاب مقاعد مضمونة لتشجيعها على العمل المؤسسي، كل ذلك خلق بيئة سياسية جديدة قوامها التكتلات لا الأفراد.
لكن هذه الخطوة الأولى ليست كافية بحد ذاتها، إذ يقع على عاتق الأحزاب تحد أكبر يتمثل في التحول من مجرد خطاب إلى برنامج، فلم يعد مقبولا أن تقتصر وظيفتها على التعليق ورد الفعل تجاه سياسات الحكومة، بل المطلوب أن تقدم مقترحات عملية وتشريعات محددة تعالج الأزمات الملحة كالفقر والبطالة وارتفاع كلفة المعيشة، هنا يبرز الفرق بين حزب انتخابي يسعى إلى مقاعد، وحزب برامجي يسعى إلى صناعة السياسات.
كما أن بناء الجسور مع الشارع بات ضرورة ملحة، فالثقافة الحزبية لن تترسخ إذا بقي التواصل مقتصرا على موسم الانتخابات، والأحزاب مطالبة بتفسير مواقفها داخل البرلمان، وتقديم تقارير دورية للناس عن أدائها، وجمع هموم المواطنين وتحويلها إلى مشاريع قوانين؛ بهذه الطريقة يمكنها أن تزرع الثقة وتبني قاعدة جماهيرية أوسع.
ولا يقل أهمية عن ذلك ضرورة استقطاب الكفاءات والخبراء لإسناد العمل البرلماني، إن التجربة النيابية الحديثة أثبتت أن معركة التشريع والرقابة لا تكسب بالخطابة وحدها، بل تحتاج إلى بيانات وأدلة وأوراق سياسات متينة، لهذا على الأحزاب أن تنشئ مراكز دراسات أو غرف عمليات تزود نوابها بالمعلومات والتحليلات اللازمة.
ومن المتوقع أن يشهد البرلمان في المرحلة المقبلة تناميا في الحاجة إلى فنون التفاوض وبناء التحالفات، كتلة قد تؤيد الحكومة في قانون المالية مثلا وتعارضها في قانون آخر يخص اللامركزية، ومثل هذا النضج في إدارة الاختلاف هو ما يعزز مكانة البرلمان كسلطة مستقلة قادرة على ممارسة الرقابة الفعالة، أدوات المساءلة يجب أن تستخدم بانتظام ولكن بمنهجية وبهدف تحسين الأداء لا الاستعراض أو الإطاحة.
ومع كل هذا التفاؤل لا يمكن إغفال العقبات فالولاءات العشائرية والمناطقية ما تزال قوية، وقد تدفع بعض النواب إلى الانسلاخ عن كتلهم في حال تعارضت مصالحهم مع الانضباط الحزبي، كما أن ضعف الموارد المالية والبنية التحتية لدى معظم الأحزاب يشكل عائقا أمام تطوير برامج واقعية أو تعزيز التواصل مع الجمهور، والأهم أن الثقافة السياسية الأردنية ما تزال تتلمس طريقها نحو تقبل فكرة المعارضة المخلصة والائتلاف المسؤول، أي أن الاختلاف لا يعني العداء والدعم لا يعني الارتهان.
في المحصلة يقف الأردن أمام لحظة مفصلية، البرلمان الحالي يشكل مختبرا حقيقيا لمدى قدرة التكتلات الحزبية على تجاوز مرحلة الشعارات إلى مرحلة تقديم بدائل سياسية واقعية، فإذا نجحت في ذلك فإنها لن تكتفي بإعادة رسم الخريطة السياسية لكنها ستضع أسسا جديدة لحياة ديمقراطية أكثر نضجا، تترجم الرؤية الملكية للتحديث السياسي وتفتح المجال أمام جيل جديد من العمل البرلماني المؤسسي القادر على إحداث فرق ملموس في حياة الناس.