مدرسة نِكْسَس: حيث يخترع المستقبل
د. أميرة يوسف ظاهر
28-08-2025 11:18 AM
تخيل طفلا في الصف الرابع يسأل ذكاء اصطناعيا: أي الوظائف ستكون متاحة لي بعد خمسة عشر عاما؟ فيجيبه: معظمها لم يخترع بعد. هذه المفارقة تختصر التحدي الذي يواجه أنظمتنا التعليمية اليوم، فنحن نعد أبناءنا لوظائف تختفي، بينما المستقبل يتطلب مهارات لم نعلمهم كيف يكتسبونها، هنا يبرز التحول من التعليم التقليدي إلى نموذج أكثر جرأة: مدرسة نِكْسَس، نقطة الالتقاء حيث تصنع الهوية والابتكار مستقبلا جديدا، حيث تندمج القيم الإنسانية بالتقنية المتقدمة ليولد جيل قادر على تجاوز حدود الحاضر.
هذه المدرسة ليست مجرد مبنى بل منظومة بيئية متكاملة تضع الإنسان في قلب العملية التعليمية، فهي تهدف إلى بناء جيل مبتكر يعتز بهويته وينتمي إلى وطنه، وفي الوقت ذاته ينظر للعالم باعتباره ساحة لحل التحديات المشتركة، وجوهر هذه الرؤية يكمن في دمج المعرفة الأكاديمية بالقيم الإنسانية، وربط المهارات التقنية بالإبداع، واستثمار الذكاء الاصطناعي كأداة لتمكين الطالب والمعلم لا لاستبدالهما.
لكن لماذا نحتاج هذا التحول الجذري؟ لأن فجوة كبيرة تتسع بين ما يتعلمه الطلاب في الفصول وما يحتاجونه في حياتهم العملية والمجتمعية، الحفظ وحده لم يعد كافيا وأصبح المطلوب القدرة على التفكير النقدي والتحليل المعقد والعمل التعاوني والابتكار المستمر، والأهم من ذلك غرس قيم المسؤولية الاجتماعية والمواطنة العالمية حتى يصبح الخريج جزءا من الحلول بدلا من أن يكون جزءا من المشكلات.
التصور الجديد للمدرسة الإيكولوجية يدمج خمسة عناصر أساسية: الإنسان الذي يبنى وعيه وشخصيته، والمعرفة التي تكتسب عبر مناهج ديناميكية ومرتبطة بالواقع، والقيم التي تغرس لبناء مجتمع متماسك، والمهارات التي تنمى لتأهيل قادة مبتكرين، والتقنية التي تسخر لتخصيص التعلم بما يتناسب مع إمكانات كل طالب؛ إنها فلسفة تربوية تجعل من التعلم مغامرة بحثية، حيث تتحول الأسئلة إلى مشاريع والمشكلات إلى فرص والفصول إلى مختبرات ابتكار.
ومثال ذلك صف تجريبي بمدرسة نِكْسَس: تطوير طالب في الثانية عشرة تطبيقا بسيطا لإعادة تدوير النفايات المنزلية باستخدام نقاط مكافآت رقمية، ضمن مشروع التحديات المجتمعية، وهذا المشروع بدأ كسؤال: كيف يمكن تقليل النفايات في حينا؟ وتحول إلى منتج تجريبي عرض أمام لجنة من رواد أعمال محليين؛ والنتيجة تحفيز الطالب على التفكير كرائد أعمال صغير، وربط التعلم بمشكلة حقيقية وتحقيق أثر ملموس في المجتمع.
إن تطبيق هذه الرؤية يتطلب خطوات عملية تتدرج من تجارب صغيرة إلى تعميم واسع، ويمكن البدء بمشروعات تجريبية داخل مدارس مختارة، تعتمد على منهج التحديات المجتمعية، ثم الانتقال إلى تدريب المعلمين ليصبحوا مصممي تجارب تعلم وموجهين لإبداع الطلبة، وليسوا مجرد ملقنين للمناهج، وبالتوازي تطور منصات تعليمية ذكية تقدم مسارات تعلم مخصصة، وتبنى شراكات مع القطاع الخاص والجامعات لتزويد الطلاب بتجارب تطبيقية حقيقية تعزز جاهزيتهم لسوق العمل.
إن الاستثمار في التعليم المتمركز حول الإنسان ليس رفاهية بل ضرورة وجودية، فالعالم لن ينتظر مدارسنا حتى تلحق بركب المستقبل، والسؤال الحقيقي ليس: هل نستطيع تحمل تكلفة التحول؟ وإنما: هل نستطيع تحمل تكلفة عدم القيام به؟ الأمر يبدأ بفصل واحد، بمعلم شجاع، بفكرة صغيرة تتحول إلى مشروع كبير، المستقبل يصنع الآن وفي مدرسة نِكْسَس، لا نتعلم للمستقبل فقط… وإنما نخترعه.