facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الموالاة العاقلة


د. بركات النمر العبادي
01-09-2025 12:58 PM

"بين وعي الهوية وحصن الدولة، والامتداد الطبيعي لنهج الاعتدال والوسطية، وبين سجالات النخب السياسية والتوقيت غير المناسب"

ما يزال الخطاب السياسي في الأردن يجتر غذاءه من الماضي ليستعمله في مساجلات الحاضر، وهذا لا ينتج إلا مزيدًا من الإرباك والتشويش على البوصلة الوطنية وتشتيتها عن أهدافها المرسومة. وفيما حاولنا فهم هذه الظاهرة من خلال علم النفس السياسي، فهي تتكشف عن أزمة بين الدولة ونخبها، وعن الطريقة التي يُمارَس بها العمل السياسي كوسيلة للهيمنة الرمزية (Bourdieu, 1991) أكثر من كونه أداة إصلاح أو خدمة للصالح العام. وهذا يؤشر على مدى هشاشة بعض هذه النخب وأنها لم تكن على المستوى الذي كانت تتوخاه الدولة، وعلى مستوى أبسط أمور الحكم كما في سرية العمل وتفكير الدولة بإدارة بعض الملفات المهمة.

إن أخطر ما في هذه الخطابات ليس مضمونها وحده، بل توقيتها أيضًا، فالوطن يقف اليوم أمام ضغوط اقتصادية واجتماعية معقدة، وتحديات إقليمية متسارعة، في لحظة يصبح فيها العبث بالخطاب الوطني أشبه بمن "يهدم بيته بيديه". وهنا نستحضر ما ذهب إليه روبرت بوتنام (2000) في كتابه Bowling Alone حين ربط بين تماسك الخطاب العام وبين رأس المال الاجتماعي، حيث يصبح الخطاب المشتت عامل تفكك لا عامل بناء. وما فعله ويفعله بعض السياسيين الذين كانوا واجهات سياسية تشخص من خلالهم حالة الدولة الأردنية، ينقلبون في حالة انفصال عن حالة الدولة إلى موزاييك من التشظي السياسي الذي يتسلل من بين زواياه الزمهرير الذي يصيبهم قبل أن يصيب الدولة بالوهن، ويضر بمؤسسات الدولة التي تشكل لبنة من لبنات البناء السياسي الوطني لا قدر الله.

والسياسة في الأردن ليست مجرد صراع على الخطاب أو سباق على المنابر، بل هي انعكاس لعمق الهوية الوطنية التي تشكّلت عبر قرن من التحديات. غير أن بعض الأصوات ما تزال تميل إلى استدعاء الماضي لتغذية سجالات آنية، وكأن التاريخ مجرد مستودع يُستحضر منه السجال لا العبرة. وكما يذكر بندكت أندرسون في كتابه الجماعات المتخيلة (1991)، فإن الهوية الوطنية تُبنى عبر سرديات مشتركة. وإذا تحولت هذه السرديات إلى وقود للانقسام، فإنها تهدد الرابط الاجتماعي بدل أن تقويه.

لقد قامت الدولة الأردنية منذ نشأتها على فكرة العقد الوطني، الذي يجمع الشعب والقيادة على قيم الاعتدال والوسطية. وقد قام الملك الحسين رحمه الله بتجسيد هذا العقد عبر مدرسة سياسية استندت إلى الاعتدال كخيار وجودي. واليوم يواصل الملك عبد الله الثاني النهج ذاته، مؤكدًا أن قوة الأردن تنبع من صلابة شعبه وتماسكه. وهذا ما يتقاطع مع ما طرحه جون لوك (1689) حول العقد الاجتماعي، بأن شرعية الدولة تستمد من التوافق الحر بين الحاكم والمحكوم، ومع ما طوّره جون رولز (1971) في نظرية العدالة حين جعل من المصلحة العامة قاعدة لأي استقرار اجتماعي.

في هذا السياق، يبرز ما يمكن تسميته بـ "الموالاة العاقلة" وهي ليست ترديدًا آليًا للخطاب الرسمي ولا انصياعًا أعمى، بل موقف وطني رزين يقوم على النقد المسؤول والولاء الصادق. إنها الموالاة التي تعرف أن الدفاع عن الدولة لا ينفصل عن حماية هوية مجتمعها، وأن الولاء الحقيقي لا يعني الصمت بل حسن الكلمة ورجاحة العقل. وهذا ينسجم مع ما أشار إليه يورغن هابرماس (1996) بين الوقائع والمعايير، حين شدّد على أن الشرعية السياسية لا تُبنى إلا عبر تواصل عقلاني يوازن بين النقد والدفاع عن الثوابت.

إن الموالاة العاقلة بذلك تمثل صمام أمان يربط بين الدولة والمجتمع، وتقدم خطابًا متزنًا يمنع الانزلاق نحو الفوضى أو التناحر، فهي ليست مجرد خيار سياسي، بل ضرورة استراتيجية للحفاظ على التوازن الوطني. وهنا نستذكر ما أوضحه أنطوني د. سميث (1991) في كتابه الهوية الوطنية، حين اعتبر أن الهوية هي الدرع الذي يحفظ استمرارية الدولة في مواجهة الضغوط الخارجية والتحديات الداخلية.

وعليه، فإن الحفاظ على الهوية الوطنية في الأردن لا يُعد مجرد شعار ثقافي أو سياسي، بل هو ركيزة من ركائز الأمن القومي، فالهوية الوطنية تمنع التصدع الداخلي، وتحصّن المجتمع ضد محاولات الاختراق، وتُبقي الدولة صلبة أمام محيط متقلب. ومن هنا، فإن "الموالاة العاقلة" ليست فقط صوتًا مسؤولًا داخل الساحة السياسية، بل هي أداة وجودية لحماية الدولة وضمان استمرارها، امتدادًا طبيعيًا لنهج الاعتدال الهاشمي الذي جعل الأردن، رغم كل التحديات، جسرًا آمنًا نحو المستقبل.

حمى الله الأردن وسدد على طريق الحق خطى قيادته وشعبه.

*مراجع مقترحة:
•Bourdieu, P. (1991). Language and Symbolic Power. Harvard University Press.
•Putnam, R. (2000). Bowling Alone: The Collapse and Revival of American Community. Simon & Schuster.
•Locke, J. (1689). Two Treatises of Government.
•Rawls, J. (1971). A Theory of Justice. Harvard University Press.
•Rosenau, J. N., & Czempiel, E.-O. (1992). Governance without Government: Order and Change in World Politics. Cambridge University Press.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :