بوصلة الإنسان؛ قيادة الأردن لرهانات AI على خارطة المستقبل
د. أميرة يوسف ظاهر
02-09-2025 08:43 AM
في عالم تتسارع فيه التحولات التقنية يطل تقرير التنمية البشرية لعام 2025 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كوثيقة استشرافية تتجاوز حدود الأرقام إلى رسم ملامح عقد اجتماعي جديد في عصر الذكاء الاصطناعي؛ التقرير الذي حمل عنوان “مسألة اختيار: الناس والإمكانيات في عصر الذكاء الاصطناعي”، يضع البشرية أمام سؤال وجودي: هل نترك الخوارزميات تحدد ملامح المستقبل، أم نصوغه بقرارات تضع الإنسان في قلب المعادلة؟ بالنسبة للأردن الذي يقف عند مفترق طرق اقتصادي وديموغرافي يبدو هذا السؤال أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
يكشف التقرير أن التقدم العالمي في مؤشر التنمية البشرية تباطأ إلى مستوى غير مسبوق، بينما اتسعت الفجوة بين الدول ذات الدخل المرتفع والمنخفض، في حين ينتظر من التكنولوجيا أن تكون رافعة للنمو، ويطرح الذكاء الاصطناعي سيناريو مزدوجا: إما أن يعمق الانقسامات أو يفتح آفاقا جديدة للنهوض البشري، وهنا يصبح الأردن مثالا لبلد يسعى لاغتنام الفرص التقنية رغم محدودية الموارد وتعدد التحديات، من بطالة مرتفعة بين الشباب إلى ضغوط مالية وإقليمية متراكمة.
القيمة الحقيقية للذكاء الاصطناعي وفق التقرير، ليست في قدرته على تقليد البشر وإنما في تعزيز إمكاناتهم وتوسيع خياراتهم، وفي السياق الأردني يعني ذلك بناء جيل عقلاني يمارس التفكير الرشيد (Reasonable Thinking) في استخدام التقنية، بحيث يكون قادرا على التمييز بين ما يعزز التنمية وما يقوضها، وهذا الجيل يحتاج إلى تعليم يدمج الذكاء الاصطناعي كأداة لتعزيز التفكير النقدي والإبداع، لا لاستبدال المعلم أو المتعلم. فيمكن أن تصبح منصات مثل “إدراك” نموذجا لتطوير التعلم الرقمي، وأن تتحول مشاريع الرعاية الصحية مثل التشخيص الذكي إلى خدمات ميدانية تخدم المناطق البعيدة، لا أن تبقى حبيسة المستشفيات الكبرى، كما يمكن دعم شركات ناشئة أردنية تعمل في التكنولوجيا المتقدمة لتكون روادا في سوق إقليمي متنام.
لكن التحول الرقمي قد يوسع الفجوات الداخلية ما لم يتم ضمان شمولية الانتفاع، وهنا تبرز الحاجة إلى مراكز إبداع رقمي في المحافظات، تتيح التدريب والتوظيف عن بعد وتقلل من المركزية الاقتصادية حول العاصمة، كذلك يحذر التقرير من مخاطر الانحياز في الخوارزميات التي إذا لم تصمم على بيانات تمثل المجتمع الأردني بتنوعه، قد تولد أشكالا جديدة من التمييز في التوظيف والخدمات.
ولضمان عقلانية الاستخدام يحتاج الأردن إلى حوكمة صارمة وميثاق أخلاقي واضح يرسم الحدود بين الابتكار والانتهاك، وبين الاستفادة من التقنية وحماية القيم الإنسانية، فالثقة المجتمعية في الذكاء الاصطناعي لن تبنى على الأداء فقط، لكن على العدالة والشفافية والمسؤولية؛ إذ يمكن للأردن أن يتحول إلى مختبر إقليمي لتجربة الحوكمة الأخلاقية، فيتم تطوير سياسات تحتذى عالميا في كيفية ضبط التقنية لخدمة التنمية البشرية بعدالة.
إن تقرير التنمية البشرية 2025 ليس مجرد تشخيص للحاضر، بل خارطة طريق لمستقبل يكتب بقراراتنا اليوم، وبالنسبة للأردن هو دعوة إلى أن يتحول من متلق للتقنية إلى صانع لفرصها، وأن ينظر إلى الذكاء الاصطناعي ليس كتهديد لوظائف الغد بل كجسر إلى اقتصاد جديد أكثر تنوعا وعدلا؛ فهل نجرؤ على كتابة روايتنا الرقمية بأنفسنا؟ وهل نستطيع أن نحول الخوارزميات من أداة مراقبة إلى جسر عبور نحو اقتصاد عادل؟
الجواب يبدأ الآن: ببناء جيل عقلاني يستثمر التقنية ضمن إطار أخلاقي صارم، ويجعل من الإنسان –لا الخوارزميات– بوصلة التقدم وغاية الابتكار.