في لحظات الانكسار الإنساني، حيث ترتفع صرخات المظلومين عارية من أي حماية، يخرج البعض متكئًا على كلمة صغيرة: “أنا محايد”. يظنّون أن الحياد يرفعهم فوق المعركة، ويُعفيهم من عار التورط. لكنه في نظر كثيرين يبدو موقفًا رصينًا يعلو فوق الانقسامات، بينما هو في الحقيقة أقرب إلى خيانة صامتة. فالحياد في لحظات الأزمات الإنسانية، حيث الحق واضح والظلم فجّ، ليس برزخًا آمنًا بين الحق والباطل، بل جدارٌ بارد يضاعف عزلة الضحايا، وانحياز غير معلن للطرف الأقوى.
الذين يتعاملون مع الحياد كأنه رقي فكري أو حياد أخلاقي، يتجاهلون أن العقول بلا ضمير ليست إلا حسابات فارغة. وما معنى أن يقول أحدهم إنه “منحاز للإنسان” لكنه يتردد في رفع صوته أمام ظلم واضح؟ الانحياز الحقيقي للإنسان لا يتحقق بالصمت ولا بالمساواة بين الجلاد والضحية، بل بالقدرة على تسمية الظلم باسمه والانتصار للمقهور.
وقد كتب إدوارد سعيد في تمثيلات المثقف: “المثقف لا يستطيع أن يكون متصالحًا مع ما هو قائم، بل هو في منفى دائم لأن ضميره يرفض الاستسلام للواقع المفروض”. هذه الكلمات لا تخص المثقف وحده، بل كل إنسان يعي أن الحياد وهمٌ يجمّل العجز، وأن الصمت ليس رصانة بل استسلام متنكّر في هيئة الحكمة.
ومع ذلك، الحياد ليس الوجه الأسوأ. الأسوأ هم المثبّطون: أولئك الذين لا يكتفون بالانسحاب من الموقف، بل يتفرغون لإضعاف أي محاولة للتضامن. يسخرون ممن يقاطع، يهاجمون من يتضامن، ويثقلون على من يحاول أن يقول “لا” في وجه الجريمة. يتحولون من متفرّجين إلى معاول هدم، يُمدّون آلة الظلم بما تحتاجه من ذرائع وأعذار.
التاريخ العربي يعرف هذا الصوت جيدًا. لم يكن الاستعمار بحاجة إلى جنوده وحدهم، بل إلى الهمسات التي أقنعت الناس: “ابقوا حيث أنتم، لا جدوى من المقاومة”. ذلك الهمس المثبِّط كان سلاحًا خفيًا أطال عمر القهر. واليوم يعود الصوت نفسه متزيّنًا بعبارات “الموضوعية” و”الاعتدال”، ليجعل من كلمة الحق تهمة، ومن الانحياز للمظلوم تطرفًا.
الحياد خطيئة، أما التثبيط فخيانة مضاعفة: خيانة للقيم التي نزعمها، وللتاريخ الذي يشكّل ذاكرتنا المشتركة، وللضحايا الذين لا يملكون رفاهية الصمت.
سيكتب التاريخ عن هذه اللحظات، وسيتذكر أسماء الذين انحازوا بوضوح، كما سيتذكر وجوه الذين احتموا خلف الحياد، وأولئك الذين هدموا بألسنتهم كل محاولة للتضامن. والسؤال الذي سيبقى معلّقًا: كيف نريد أن نُذكر؟ كجيل صمت، أم كجيل امتلك شجاعة الانحياز للإنسان؟