العقبة بعد عقدين: لماذا لم تصبح رافعة للاقتصاد الأردني؟
د. حمد الكساسبة
02-09-2025 12:42 PM
تأسست منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة عام 2001 لتكون بوابة جديدة للاقتصاد الأردني، ورافعة استثمارية قادرة على تحفيز النمو وخلق فرص العمل وتعزيز الصادرات. وقد حظيت منذ البداية ببنية تحتية متقدمة وحوافز تشريعية واسعة، ما رفع سقف التوقعات بأن تتحول إلى نموذج شبيه بمناطق اقتصادية ناجحة مثل جبل علي في الإمارات أو ميناء طنجة المتوسط في المغرب. لكن بعد أكثر من عقدين، لم تتجاوز مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي 3%، وهو رقم متواضع مقارنة بحجم الاستثمارات المتراكمة التي تجاوزت 20 مليار دولار.
المشكلة الجوهرية تكمن في أن العقبة بقيت إلى حد كبير معزولة عن الاقتصاد الوطني، ولم تحقق التكامل المطلوب مع باقي المحافظات. فعوضًا عن أن تكون مركزًا لوجستيًا وصناعيًا يربط الأردن بالتجارة العالمية، اقتصرت أدوارها في الغالب على العقار والخدمات السياحية، وهي أنشطة ذات مردود محدود من حيث القيمة المضافة والتشغيل. نتيجة لذلك، لم يلمس سكان الجنوب الأثر المباشر لهذه الاستثمارات، إذ بقيت معدلات البطالة مرتفعة، وتفاوت التنمية بين العقبة والمحافظات المجاورة واضحًا.
وعند مقارنة العقبة بتجارب إقليمية، يظهر التباين بوضوح. فميناء طنجة المتوسط رفع صادرات المغرب بأكثر من 15 مليار دولار خلال عقد واحد، فيما يساهم جبل علي بأكثر من 20% من تجارة دبي غير النفطية. أما العقبة، فرغم إمكاناتها وموقعها الاستراتيجي، ما تزال مساهمتها متواضعة في الصادرات الوطنية وفي توليد الإيرادات العامة. هذا التباين الرقمي يطرح سؤالًا مهمًا: لماذا بقيت العقبة خارج سلاسل القيمة والتجارة الدولية حتى اليوم؟
جزء من الجواب يعود إلى غياب مشاريع الربط الكبرى التي طُرحت منذ سنوات. فمشاريع السكك الحديدية والموانئ الذكية لم تدخل حيز التنفيذ، ما أبقى العقبة على هامش التحولات اللوجستية في المنطقة. ومع إطلاق مشاريع ضخمة مثل نيوم والموانئ المجاورة في السعودية ومصر، يصبح تجاهل تطوير العقبة تهديدًا لمكانتها التنافسية، ويجعلها مهددة بأن تفقد دورها الإقليمي لصالح موانئ أكثر تطورًا وجاذبية.
في المقابل، تبرز مبادرة الاقتصاد الأزرق التي أطلقها جلالة الملك مؤخرًا كفرصة لإعادة تعريف دور العقبة. فالبحر الأحمر يوفر إمكانات ضخمة في مجالات السياحة البحرية، وتربية الأحياء المائية، والصناعات المرتبطة بالبحر. غير أن هذه القطاعات لم تُستثمر بعد ضمن رؤية وطنية متكاملة. فإذا ما جرى تفعيل الاقتصاد الأزرق بالشكل الصحيح، يمكن أن يتحول إلى محرك تنموي جديد يخلق فرص عمل في الجنوب ويزيد من مساهمة العقبة في الاقتصاد الوطني.
من التحديات الأخرى، تعدد المرجعيات وتداخل الصلاحيات في إدارة المنطقة. غياب قيادة موحدة ذات صلاحيات تنفيذية متكاملة أدى إلى ضعف التنسيق وتشتت القرار، ما انعكس سلبًا على استدامة السياسات وثقة المستثمرين. وهنا تبدو الحاجة واضحة إلى هيكل حوكمة أكثر كفاءة يربط العقبة بالاستراتيجية الاقتصادية الوطنية ويوفر مرجعية واحدة للمستثمرين.
كما أن منظومة الحوافز الاستثمارية بحاجة إلى إعادة تصميم. فقد مُنحت الحوافز في الغالب بشكل عام، دون ربطها بمؤشرات أداء مثل التشغيل المحلي، أو نسبة التصدير، أو نقل المعرفة. النتيجة أن معظم الاستثمارات تركزت في قطاعات ريعية، بينما بقيت القطاعات الصناعية والتكنولوجية ضعيفة الحضور. لذا فإن إعادة توجيه الحوافز نحو الأنشطة ذات القيمة المضافة العالية شرط أساسي لتعظيم أثر العقبة.
ورغم ذلك، لا يمكن تجاهل بعض الجهود الحكومية الأخيرة التي استهدفت تعزيز موقع العقبة. فقد شملت هذه الجهود توسعة وصيانة الميناء، ومشاريع تطوير البنية التحتية، وربط المنطقة بمشروع الناقل الوطني للمياه لضمان استدامة الموارد، إضافة إلى مبادرات لدعم الصناعات التحويلية والقطاعات التصديرية مثل الفوسفات والبوتاس. ورغم أن هذه الخطوات مهمة، فإن أثرها سيبقى محدودًا إذا لم يُستكمل برؤية شاملة تدمج العقبة ضمن المنظومة الاقتصادية الوطنية.
كما أن إدماج الجامعات والمعاهد التقنية في الجنوب ضمن المشاريع الاستثمارية في العقبة يمكن أن يوفر قوى عاملة مدربة محليًا، ويمنح الشباب فرصًا فعلية للمشاركة في مشاريع كبرى بدلًا من الاعتماد على استقدام عمالة من الخارج. وربط العقبة بتنمية المحافظات المحيطة يصبح ضرورة لتحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع عوائد التنمية بشكل متوازن.
في المحصلة، لا تكمن معضلة العقبة في نقص الإمكانات، بل في غياب التكامل والتخطيط الشمولي. فالموقع الاستثنائي والبنية التحتية والموارد البحرية تجعل منها رصيدًا استراتيجيًا للأردن، لكن هذا الرصيد لن يتحول إلى قوة اقتصادية فاعلة ما لم يتم دمجه ضمن رؤية التحديث الاقتصادي التي تستهدف رفع الإنتاجية وتوزيع مكاسب التنمية بعدالة بين المحافظات. إن العقبة قادرة على أن تصبح مركزًا إقليميًا للتجارة والخدمات والاقتصاد الأزرق، شرط أن تتوافر الإرادة الحازمة والحوكمة الرشيدة والقدرة على ربطها بالاقتصاد الوطني بفعالية.