facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




بين الغانمين والغارمين .. البيضة التي كشفت عاداتنا


محمود الدباس - أبو الليث
05-09-2025 04:01 PM

كنا نعيش زمناً.. يُكرم فيه الناس بما تجود به نفوسهم.. زمن الغانمين.. الذين إن حضروا.. كانوا غنيمة.. وإن غابوا.. تركوا وراءهم ذكراً طيباً.. فلم تكن الضيافة مادة للتباهي.. ولا وسيلة للتفاخر.. بل كانت ستر وجه.. وستر حال.. يكرم المضيف بما استطاع.. ويستحي الضيف أن يرهق مضيفه.. أو يحرجه.. فكان اللقاء عامراً بالحب.. قبل الطعام.. وبالمودة قبل الموائد.

قالوا قديماً "الغانم ستره سابق عطاه".. فكان الغانم هو ذاك الرجل.. الذي تُغنم عنده المواقف قبل المكاسب.. فإن قصدته وجدته.. وإن استنجدت به نهض لك.. كما أنشد الشاعر "يا راكبٍ من فوق ماهيـن الأقدام.. ودِّ السلام لغانم الطيب كلّه".

فإذا حلّ الغانم ضيفاً.. لم يطلب أكثر مما وُجد.. وإذا وجد نقصاً ستره.. ولم يفضحه.. وإذا خرج من دارٍ.. حمل المعروف في قلبه لا على لسانه.. فكان غانماً ضيفاً.. كما هو غانماً معزباً.

أما اليوم.. فقد تبدلت الحال.. وأصبحنا نرى كثرة من الغارمين.. الذين أثقلوا أنفسهم بالديون.. لا في سبيل ضرورة.. أو إصلاح.. بل من أجل ممارسات اجتماعية.. أرهقت الجميع.. حفلات أعراس.. تكاد تنافس الليالي الملاح.. جاهات عرمرمية.. ولائم عزاء لا تنتهي.. حفلات تخرج.. وأعياد ميلاد.. كأنها مهرجانات.. وكلها تدفع الناس دفعاً إلى الاستدانة.. خوفاً من أن يُنعتوا بالبخل.. أو يُتهموا بعدم مجاراة الناس.

لقد صرنا نعيش في زمن يختلط فيه الكرم مع المباهاة.. والبخل مع العقلانية.. فيخشى الرجل.. أن يُقال عنه بخيل.. فيقع في الدَّين.. ويصبح من الغارمين.. بينما كان أسلافنا يرون.. أن الكرم لا يقاس بكثرة ما يوضع على المائدة.. بل بصدق النية وصفاء الوجه.

كنت أحدث صديقاً فاضلاً عن هذا التبدل.. فقال لي الدنيا تغيرت.. ولك في بيضة الدجاجة عبرة.. ففي الماضي.. كان أحدنا إذا أراد أن يفطر على بيضة.. خرج إلى حوش الدار.. فأحضرها من دجاجاته.. التي تقتات على فتات البيت وما يخرج من قمح أو شعير.. يقليها في سمن بلدي من غنمه.. وعلى نار الحطب من شجره.. ويغمسها برغيف خبز من قمح مطحون على الرحى بيد أمه.. حتى تنظيف المقلاة.. كان بماء البئر الذي امتلأ من المطر.. فتكلفة الإفطار على بيضة كانت أقرب الى الصفر.

أما اليوم.. فثمن البيضة حوالي عشرة قروش.. تُجلب بسيارة تحتاج إلى وقود.. تُقلى بزيت مُشترى.. على غاز ندفع ثمنه.. وتُنظف المقلاة في غسالة صحون.. وربما خُفقت بالخلاط الكهربائي.. وتُغمس برغيف من المخبز.. لتصل تكلفة إفطار البيضة الواحدة إلى حوالي ربع دينار أو اكثر.. اذا كانت بلدية.. وهكذا صارت الحياة كلها مُثقلة بالنفقات.. حتى أبسط الأشياء لم تعد بسيطة.

وإذا عدنا إلى الماضي القريب.. حين كان المريض يُزار بلا رسميات.. فبعضهم يدخل بيديه فارغتين.. فيُرحب به.. وآخر يحمل "سفط ناشد".. أو " سفط سلفانة ميترو".. فيُكرم كما يكرم غيره.. وأهل المريض.. إن قدموا كاسة شاي.. أو فنجان قهوة.. أو قطف عنب من دالية بيتهم.. فذلك مقدر ومشكور.. أما اليوم.. فإن لم يقدم الضيف هدية معتبرة.. أو إن لم يضع أهل المريض ضيافة من كل الأشكال والاصناف.. قامت القيامة عليهم.. وصارت سمعتهم على كل لسان.

بل إن بعض الناس.. باتوا يخفون مرض قريب لهم.. أو فرحة تخرج ابن لهم.. لأنهم لا يقدرون على فتح الباب لكل طارق.. ولا على مجاراة تكاليف الضيافة والولائم.. بل حتى بعض الأصدقاء.. اصبحوا لا يريدون سماع خبر مرض.. أو فرح عند صديقهم.. لأنهم لا يملكون ثمن هدية تليق.

هكذا تحولت العادات من كونها حميدة.. إلى أن صارت مرهقة.. وزمن الغانمين.. الذين يكرمون بالستر.. تبدل بزمن الغارمين.. الذين يستدينون لستر وجوههم أمام الناس.

إنها صرخة في زمن الإسراف.. ودعوة لأن نرحم بعضنا بعضاً.. فما أجمل أن يكتب المقتدر في بطاقة دعوة عرس.. أو حفل تخرج حضوركم تشريف وليس تكليف.. ليرفع الحرج عن من يريد مشاركته الفرحة.. بلا نقوط ولا هدية.. بل بحب.. وصدق.. ومباركة.. فالمودة الصافية.. أغلى من كل مائدة.. والذِكر الطيب.. أبقى من كل مناسبة.

فلنكن صرحاء.. إن العرس.. والتخريج.. والعزاء.. والجاهات.. وأعياد الميلاد.. وزيارات المرضى.. كلها مناسبات ينبغي أن تبقى.. للتلاقي والرحمة.. لا للتباهي والإرهاق.. فما جدوى أن نفرح بعرس ابننا.. إذا كان ثمن الفرح.. ديناً يطاردنا سنين؟!.. وما فائدة أن نزور مريضاً.. إذا كانت زيارتنا عبئاً.. يرهق أهله أكثر من مرضه؟!.. ولماذا يتحول العزاء.. من ساحة للمواساة.. إلى ميدان للتنافس في الولائم؟!.

إنها صرخة من أعماق أناس كثر.. ودعوة شجاعة.. أن نعيد للعادات معناها الحقيقي.. وأن نرحم بعضنا بعضاً.. سواء كنا ضيوفاً لا نرهق معزبينا.. أو معزبين لا نكلّف ضيوفنا ما لا يطيقون.. فالمحبة التي في القلب أثمن من النقوط.. والكلمة الطيبة أبقى من الهدية.. وستر الوجه أكرم من كل مائدة.. فلنخفف على أنفسنا.. وعلى غيرنا.. قبل أن نصبح جميعاً من الغارمين.. في زمن قلّ فيه الغانمون.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :